رندة حلوم
إذا كان المنهج النّفسي في نقد الفن التّشكيليّ يقرأ الفنان من خلال أعماله، بحسب الدراسات التي ربطت تلك الأعمال بظروف المبدع النّفسيَّة، فهو السيرة الذاتية الأعمق للفنان، والتي تكون منبثقة من تعرجات اللاوعي، فتكون الأعمال -وفقا لهذا الاعتبار- الخريطة النفسيَّة للفنان. وهذا نتفق عليه عندما نكون متيقنين تماماً بأن اللاوعي هو نتاج الوعي، واللاوعي بحسب "فرويد" انعكاس لكل ما حدث مع الإنسان منذ طفولته المبكرة من أحداث سارة أو مؤلمة، وهو بدوره ينطبق على الأدب أيضاً، لكنّه في الفن يبدو أوضح وأنضج، إذا ما قمنا بقراءة الأعمال الإبداعية للفنان (نحت، رسم) بحسب منهج تحليلي نفسي.
ففي الأدب حدد الناقد "سانت بيف" شخصية الأديب عنصراً محدداً لطبيعة إنتاجه، ويعتبر "سيغموند فرويد" صاحب نظريّة "التحليل النفسي"، علم النفس أساساً في فهم الصور التشكيليَّة، ولا سيما في دراسته التي خص بها "دافنتشي". ونستطيع القول بأنّ المنهج النّفسي في النّقد الأدبي والفني منهج يعتمد تحليل العمارة النفسيَّة للشخصيات التي قامت بخلق العمل الإبداعي عبر المخزون النفسي اللاوعي. وهنا يكون التركيز على الفنان نفسه من خلال قراءة العمل، إذا اعتبرنا بحسب هذا المنهج العمل الفني تعبيرياً رمزيّاً عن مكبوتات منطقة اللاوعي المظلمة "الصندوق الأسود" التي وجدت طريقها للخروج في رموز الفن، كوسيلة سامية عليا من التّصعيد، وهو ما سماه فرويد "التصعيد في دروب الإبداع".
وهنا يشبه" فرويد" الأدب، والفن عموماً، بالأحلام المرمزة، فالأدب في منظور التحليل النفسي هو "حلم الأديب". وعندما نطبق هذا على الفن سينتج عن هذا التطبيق أن العمل وثيقة نفسية تكشف عن حقيقة صاحبه من خلال كشفها عن عقله الباطن، إذا كان اللاوعي يتدخل في تشكيل الوعي، وهنا العلاقة بين الوعي واللاوعي علاقة تبادلية وعكسية. تكتسب الصّور والرّموز التي يتم توظيفها في الفن أهمية كبيرة في الكشف عن نفسية المبدع، لأنه يستعملها بشكل غير واع في تجسيد باطنه، فهي كالرّموز التي يجسدها اللاشعور في الأحلام عندما تنتقل مشفرة إلى ساحة الشعور عن طريق صور معينة نقوم بتفسيرها فيما بعد عند مختص، وفي الفن هذا المختص يكون الناقد الفني وفق منهج تحليلي نفسي عميق يتناول البنية التشكيليَّة من خلال تحليل (اللّون، الأحجام، المساحة، الظلال، الحالات الشعورية، ضربة الفرشاة، الرموز، الإضاءة.. الخ).
فإذا نظرنا إلى الفنان التشكيليّ من منظور قيادة اللاوعي للعملية الشعوريّة الواعية، سننظر إليه على أنه "حالة نفسيّة" صرفة تظهر على سطح العمل الفّني الحالات الشعورية "القلق، الفرح، الحزن، الضياع... الخ" وبعض الأمراض والعقد النفسيَّة "الاكتئاب، اضطراب ثنائي القطب، الذهان، الوسواس القهري، القلق، العصاب، الذهان.. وغيرها".
ويرى "فرويد" بأن العقد تكمن خلف الاضطرابات النفسيّة هي عقد بسبب الكبت "الجنسي، الاجتماعي، السياسي الناتج عن الخوف من السلطة الحاكمة".
استند فرويد على هذه النظرية ومبادئها لتحليل عدد من الأعمال الفنية، وقدم كتابه "التحليل النفسي والفن" لتحليل شخصيتي "ليوناردو دافنتشي، ودوستويفسكي" من خلال أعمالهما الفّنيّة والأدبيّة، وجعل ذلك في قسمين من الكتاب استند في القسم الأول على معطيات من طفولة "دافنتشي" تفسر ما كان يعيشه من اضطرابات نفسيّة، منها "عقدة أوديب" لكونه مولود من علاقة غير شرعية.
وانطلق "فرويد" من هذه المعطيات ليفسر عدداً من الأعمال لـ "دافنتشي"، منها: "القديسة آن"، و"الجو كندا"، و" العشاء الأخير". فالسمة المشتركة بين هذه اللّوحات كانت الابتسامة الغامضة التي تكررت في الكثير منها.
ويستنتج "فرويد" من خلال الربط بين هذه اللوحات وبين طفولة الفنان أن هذه الابتسامة الغامضة تعرب عن حرمانه في طفولته من امه، وهي تعبير غير واع عن ارتباطه الوثيق بها، وهنا تظهر "عقدة أوديب" بأبعادها الجنسية بعيداً عن رقابة الأنا الأعلى، وقد اعتمد الطبيب النفسي النمساوي "فرويد" طريقة تداعي الذكريات في التحليل النفسيّ لدافنتشي.
واجتهد في اعتماد الطابع التفسيري لدراسة العمل الفني ودلالته على نفسيّة الفنان وفق "نظرية الانعكاس"، وتسري هذه الدراسة في مسارين، أحدها من حياة الفنان وطفولته لفهم نفسيته، والثاني من شخصيات العمل الفّني وتحليل رموزه من أجل الكشف عن نفسيّته أيضاً.