أحلام مستغانمي بين الرواية والسيرة الذاتيَّة

ثقافة 2024/03/13
...

صدوق نورالدين/ المغرب 



يرتبط مفهوم السيرة الذاتية بحديث الكاتب تحديداً عن حياته الشخصية. وبالتالي، مجمل المراحل التي مرت بها هذه الذات. ولذلك يجنح كاتب السيرة في الغالب إلى اعتماد ضمير المتكلم في محاولة لترجمة أحداث وقضايا تعمل الذاكرة على استعادتها. بمعنى آخر، أن المنتج في حال السيرة الذاتية يرتبط بالماضي، وتتغيا الكتابة تحويله حاضراً تتحقق قراءته والتفاعل معه. إلا أنه ليس من الملزم أن يدون كاتب السيرة الذاتية تفاصيل حياته برمتها، وإنما يختار أن ينتقي ما يعدّه ملائماً للكتابة، علماً بأن فضاء التقاليد الذي يتواجد فيه الكاتب يفرض ممارسة نوع من الرقابة على وقائع وأحداث يأنف من سردها.
هذا في الجوهر، ما اعترف به كتّاب طبقت شهرة سيرهم الذاتية الآفاق، سواء في مذكراتهم أو رسائلهم أو حواراتهم. ويكفي التمثيل بما جاء به القاص والروائي المغربي عبد المجيد بنجلون(1919/1981) مؤلف “في الطفولة”(1957)، ومحمد شكري (1935/2003) في “الخبز الحافي (1982) التي تعد الجزء الأول من ثلاثيته الذاتية. وقد يكون الأمر ذاته طال “الأيام” (1929) لطه حسين (1889/1973) و”غربة الراعي” (1996) لإحسان عباس(1920/2005) و “حصاد السنين”(2005) لزكي نجيب محمود(1905/1993).

على أن تحقق كتابة السيرة الذاتية في الأدب العربي، من الممكن أن يتم في مراحل مبكرة، وهو حال “الأيام” و”الخبز الحافي” و”سارة” (1938)، كما من الممكن أن يتأخر إلى فترة عمرية يكون فيها الكاتب تشرَّب المعاناة الحياتية والفكرية حيث يتولّد الإحساس بدنوِّ النهاية. ويشكِّل الموت، الدافع الرئيس لتدوين السيرة الذاتية. ونمثل بسيرة عبد الرحمن بدوي (1917/2002) “قصة حياة” (2000)، و”ذكريات الأدب والحب” (2002) لسهيل إدريس(1925/ 2008) و”البئر الأولى” و “شارع الأميرات”  لجبرا إبراهيم جبرا (1919/1994). وقد يحول العامل النفسي دون إتمام تدوين السيرة، علماً بأن ثمة من كتب سيرته الذاتية في جزء واحد فقط، ومن امتد بها بامتداد مراحل حياته، وهو حال مصطفى الفقي وجلال أمين وثروت عكاشة، ومن خانه الزمن بعد أن وعد بإصدار الأجزاء المتبقية من سيرته الذاتية.

أحلام مستغانمي.. من الرواية إلى السيرة الذاتية

 تأسس القول الإبداعي في تجربة أحلام مستغانمي بداية من الكتابة الشعرية. إذ، منذ ديوانها النواة “على مرفأ الأيام”(1972)، وإلى “عليك اللهفة” (2014)، واصلت الانخراط في الممارسة الشعرية المطبوعة بخاصات الحب والحنين. الانخراط في الجوهر، وسم لغتها الأدبية بالشعرية التي تجسدت _أساساً_ في كتابتها الروائية. 

على أن ممارسة الكتابة الشعرية، لم تخوِّل الاسم العلم مرتبة التداول والذيوع الذي تحقق انطلاقاً من ثلاثيتها الروائية “ذاكرة الجسد” (1993)، “فوضى الحواس” (1997) و”عابر سرير” (1998)، حيث ظفرت بجائزة عميد الرواية العربية نجيب محفوظ عن العام(1998)، وبالتحديد عقب إصدارها للجزء الأول “ ذاكرة الجسد” الذي قال عنه/فيه الشاعر السوري الراحل نزار قباني(1923/1998) : 

“ روايتها دوختني. و أنا نادراً ما أدوخ أمام رواية من الروايات، وسبب الدوخة أن النص الذي قرأته يشبهني إلى درجة التطابق. فهو مجنون ومتوتر واقتحامي ومتوحش وإنساني وشهواني وخارج على القانون مثلي. ولو أن أحداً طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه الرواية الاستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر لما ترددت لحظة واحدة. “

بيد أن السؤال الذي يجدر طرحه لمناسبة صدور سيرتها الروائية “ أصبحت أنت” (نوفل/بيروت/2023) يرتبط بالعلاقة التي يمكن أن تصل الإصدار الأخير بالثلاثية السابقة. فالمادة الحكائية التي أسهمت في إنتاج المعنى، قد يتحقق تصريف جزء منها ضمن الثلاثية من منطلق كون الروائي مهما كانت مكانته لا يمكن أن يغترف سوى من بئر الماضي. وتلعب الذاكرة دورها في الاستحضار وعلى الاستدعاء. وأتمثل شاهدين: الأول يتعلق بالروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا الذي اعترف قبل إنجاز سيرته في جزئها الأول والثاني بكونه أقدم على ضم تفاصيل في رواياته. وأما الثاني، فيرتبط بالقاص والروائي المغربي محمد زفزاف (1943/2001) الذي جزم بالمطلق على ألا يدون سيرته الذاتية، بينما اعتبر نقاده بأن كل منجز روائي له تتماهى فيه الشخصية بالمؤلف حد التطابق، وكأن التجربة الروائية في امتدادها سيرة ذاتية كبرى.

إن أحلام مستغانمي وهي تصدر سيرتها الروائية، إنما تؤكد على أن هذه السيرة قد تكون محطتها الأخيرة على مستوى الإبداع الأدبي. فالسيرة ظهرت من ناحية في جزء واحد. وفي المرحلة الأخيرة من الحياة، علماً بأن خاصة الخيال والتخييل لا يمكن أن تُمحى أو تقل أو تتضاءل بالنسبة لمن يواصل القراءة أولاً، والإبداع ثانياً. فهل لكون المعنى الوارد في السيرة “أصبحت أنت” تكرار لما جاء في الثلاثية؟ 

وحتى تتحقق الإجابة، يلزم القول بأن الكاتبة أحلام مستغانمي كانت واضحة في رسمها الحدود بين 

الأجناس الأدبية، إذ اعتبرت الثلاثية روايات، فيما “أصبحت أنت” سيرة روائية. بمعنى أن ميثاق التعاقد بين الكاتب و المتلقي حسب منظِّر السيرة الذاتية الفرنسي فيليب لوجون ومنذ الشروع في القراءة، واضح لا يحتاج إلى نقاش.

إن ما عملت الثلاثية على إنتاج معناه، يتجسد _ إذا حق _ في الموازاة بين الحب و الحنين. الحب المرتبط بالوطن الجزائر، حيث تستحضر سنوات الكفاح الوطني ضد المحتل. هذه السنوات تجد قوة حضورها في شخصية خالد الرسام لما تتحول البندقية ريشة غايتها ترجمة الأحاسيس والمشاعر، إلى الانكسارات والخيبات. وتجد الشخصية امتداداتها في بقية أجزاء الثلاثية، وبالتحديد “فوضى الحواس” و”عابر سرير”. فالرواية صيغت بوعي الامتداد والاستمرار، حيث يتحقق التنويع الإبداعي على ما يعد ثابتاً. 

وأما في السيرة الذاتية “أصبحت أنت”، ويلفت شاعرية العنوان المحيلة أساساً على شخصية الأدب المهيمن على السيرة، ويستحضر على امتداد المعنى المعبِّر عنه “بعدك أصبحت أنت”، فيتماهى بروحه الوطنية المناضلة بالوطن الجزائر في عشق أقرب ما يكون صوفياً. فأحلام مستغانمي تضع القارئ أمام تفاصيل تتعلق بالأب الذي تكتب عنه في صيغة حوارية بين حاضر هو بالتحديد حياة المؤلفة، وغائب يحيل على الأب. وكأن الأمر يتعلق بتمثل ثنائية الموت/ الحياة. فالسيرة الذاتية كنص، تنفتح على الكتابة الرسائلية التي تعيد التذكير بنضالات الوطن المتطرق إليها في الثلاثية : 

“ كل كتاباتي كانت تنقصها دهشتك، كل نجاحاتي كان ينقصها زهوك. أي شقاء أن تكتب للقارئ الذي لا يقرأك”. 

على أن السؤال الذي يطرح: هل كانت مستغانمي تدوِّن سيرتها أم سيرة أبيها ؟

إن الوعي بالكتابة الأدبية _ وتحديداً السيرة الذاتية_ يفرض شمولية الإحاطة في ما يتعلق بالأسرة. فالحديث عن شخصية الأب نواة السيرة الذاتية “أصبحت أنت”، خاصة أن المرحلة الزمنية المعبَّر عنها ترتبط بالهيمنة الذكورية وتواري شخصية الأم. يطالعنا هذا في نماذج متعددة من السيرة الذاتية العربية: “الأيام”، “حياتي” ،”الخبز الحافي”، “والد وما ولد” وغير هذه النصوص السردية التي تؤكد حضور سلطة الأب وأثرها نفسياً واجتماعياً وثقافياً. ولذلك يبرز أثر الفقدان في هذه السيرة الروائية :

“ ما جدوى أن أكتب مادام ليس في المقابر مكتبات ليقرأني أبي”. 

على أنه و بالإضافة إلى قضايا الوطن، تتصدى أحلام مستغانمي للعلاقة والإبداع. أقول الصلة بعالم الكتابة والمراحل التي مرت بها : من الكتابة الشعرية _ كما مر _ إلى الروائية، وتمثل صورة الإعلامية من خلال برنامجها الإذاعي وسفرها خارج أرض الوطن حيث تابعت دراستها الجامعية. من ثم، تكتمل 

الرؤية إلى الشخصية في “أصبحت أنت”. فالذات هي الأنت، الآخر، الفردي والجماعي على السواء. 

                    عود على بدء 

تبقى العلاقة بين الرواية و السيرة الذاتية في التجربة الإبداعية لأحلام مستغانمي:

1/ علاقة تكامل من حيث التعبير. فأكثر من عنصر يحيل على القضايا الذاتية نفسها. وإذا كانت الثلاثية الروائية عكست لعبة التماهيات، فالسيرة الروائية “أصبحت أنت” دلت بوضوح _ وحسب التحديد_ على شخصية أحلام مستغانمي.

2/ يحضر الوطن سواء في الثلاثية أو السيرة الذاتية انطلاقاً من كفاحاته ونضالاته بحثاً عن الحرية والاستقلال.

3/ تتماهى شخصية الأب والوطن، من موقع الانتماء والمشاركة والحرص على البعد الوطني والإنساني.

4/ يتداخل في السيرة الروائية بالضبط، جنس أدب الرسالة. إذ السيرة الروائية خطاب موجه إلى الأب المناضل والمثقف. و كما يتم الانفتاح على الرسائلي، يتحقق و المذكراتي. إذ أن أحلام مستغانمي في تعبيرها الحياتي عن علاقتها بالكتابة تدون _ في الجوهر _ مذكراتها.

5/ إن المشترك بين الرواية والسيرة الذاتية، مكوِّن اللغة الشعرية التي تستدعي صورة الشاعرة في الكتابة الأدبية./.