الفلسفة والمدينة

ثقافة 2019/05/27
...

نصير فليح
 
هل يمكن تصور مجتمع وثقافة حيين من دون فكر فاعل؟ وهل يمكن تصور فكر فاعل من دون حركية تمتد به الى الجذور؟ بكلمات كهذه يمكن اختصار الواقع الفلسفي المؤلم في ثقافتنا العربية المنكفئة أصلا. فالفكر الذي يمتد الى الجذور، هو الفلسفة تحديدا، ما دام يعنى بالمواضيع الاكثر عمومية وأولية، مثل الانسان، العالم، الوجود، علاقة الوعي بما حوله، معنى الأسئلة الاخلاقية والجمالية، وكل ذلك عن طريق النشاط العقلي التفكري.
من المفارقات الموحية في هذا التدهور العام، النظرة الشائعة نفسها لكلمة “فلسفة”. تلك الحمولة الانتقاصية التي باتت ترتبط بهذه الكلمة بفعل تراكم الانتقاص والتشويه. وهكذا ما إن يتحدث شخص في مسلسل او فيلم سينمائي عربي عن بعض الجوانب الأبعد من السطح قليلا، حتى يأتيه الرد بان لا يتفلسف! او ما إن يتمعن شخص بأي موضوع ولو لبرهة قصيرة، حتى يجي الرد نفسه! وكأن لا شيء هناك وراء السطوح، وكأن كل ما هو مهم في علاقة الانسان بالعالم معروف ومحسوم. وهل هي صدفة ان يكون “تهافت الفلاسفة” للغزالي هو المنتصر في واقعنا وتاريخنا الثقافي، لا “تهافت التهافت”؟
حتى بين الأوساط المتعلمة او المثقفة، نجد الاهتمام الفلسفي الملائم يكاد يكون نادرا. وكأن الاديب او الشاعر او الفنان يمكن ان يجترج ما يريد اجتراحه بمعزل عن نظرة شمولية للواقع والانسان والعالم، وما هي الفلسفة او الوعي الفلسفي في نهاية المطاف سوى هذه النظرة الشمولية، الاكثر عمقا من السطح، والاكثر سعيا
 للتوغل؟
 
الفلسفة بنت المدينة
الفلسفة، كما يقول محمد عابد الجابري، هي بنت المدينة. وسواء أكان هذا التشخيص للجابري نفسه أم استوحاه من آخرين، فلنتوقف عنده قليلا ونستنطق شيئا مما فيه. البنى الاجتماعية في المدينة تختلف عن تلك التي في الريف وتلك التي في البداوة. وبالتالي، فان الارضية الممهدة لهذا النوع من التفكر والتمعن، تتوفر في هذا التنظيم الاجتماعي بالدرجة الاساس. ولكن لماذا؟ واحدة من الجوانب التي يمكن تشخيصها في البنية الاجتماعية للمدينة، مقارنة بالريف والبداوة، انها بنية ديناميكية لا سكونية. فالازمنة والاجيال في مجتمعات البداوة والريف تعيش حياة سكونية قد تستمر بها مئات السنين او اكثر، دونما تغيرات تذكر. وهذا يعود ايضا الى طبيعة البنية الاقتصادية لهذه المجتمعات، أي البداوة المرتبطة بالرعي، والزراعة المرتبطة بالارض
 ومحصولها. 
بينما في المدينة، حيث التجارة، والتنوع، واختلاط جماعات ورؤى مختلفة، كل ذلك يمثل حافزا لحركة ديناميكية في الفكر ايضا، بدل تكرار الموروث عبر القرون. 
هذا لا يعني ان كل مدينة ستولد فلسفاتها بالضرورة، ولكن يمكن القول ان الفلسفة لا تنمو الا في جو المدينة. المدن الاولى التي ظهرت فيها الفلسفة حسب ما يقدمها لنا التاريخ الفلسفي هي المدن الاغريقية، فكانت التساؤلات الاولى التي انزاحت من الاسطورة الى نوع جديد من التفكر بالعالم، عند الفلاسفة ما قبل سقراط في القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، من قبيل فيثاغورس، طاليس، انكسمندرس، ديموقريطس، هيرقليطس وغيرهم، فضلا عمن سماهم افلاطون لاحقا “السوفسطائيين”، هذه الكلمة التي باتت ايضا تكتسي بحمولة انتقاصية، رغم ان اصل معناها الحرفي هو “الحكماء”.
 
المدينة والحضارة
وفي حضارتنا العربية الاسلامية، نرى ان الحواضر المدينية هي التي برز فيها الفكر الفلسفي، حيث تكونات مقدمات هذا الفكر من الاسئلة الضرورية، والمادة المعرفية. الاسئلة الضرورية في مواجهة الصراعات الفكرية والحضارية الدينية المختلفة، والمادة المعرفية التي تولدت عن الامتزاج بالشعوب الاخرى وحضاراتها، بما في ذلك ترجمة الإرث اليوناني الفلسفي الثرّ الى العربية. 
وكما يشخص ابن خلدون بحق، فان مرحلة الازدهار الفكري هذه هي غالبا مرحلة التراجع العسكري في عناصر الغلبة. وليست صدفة ان ازدهار المدن الاغريقية، مثل اثينا في القرنين الخامس والرابع الميلادي، كانت هي مرحلة تراجعها العسكري في معايير الغلبة امام اسبارطة الاقل فكرا والاكثر عسكرة. كما هو الحال مع تراجع الحضارات المزدهرة ايضا في الموروث العربي الاسلامي امام الموجات الاقل فكراً والاكثر عسكرة وبداوة.
عندما نقول “المدينة”، او “التحضر”، فان المعيار مرتبط بالضرورة بعصر معين. ومدن قديمة كانت الاكثر تحضرا، هي اليوم بمعايير عصرنا بدائية لا تملك من مقومات التحضر المعاصر الا النزر اليسير. 
ومدننا العربية الحالية مقارنة بمدن العالم المتقدم، من حيث التنظيم السياسي-الاجتماعي-الاقتصادي، وما يقترن به في عالمنا المعاصر من معايير التحضر والمدنية والمواطنة وحرية الفكر والتعبير وقوة القانون، لا تزال مدنا قديمة نصف ما فيها يعتاش على مجتمعات ما قبل الحداثة. واليوم، حيث لا يزال عالمنا العربي يعيش حالة التخبط المزمنة التي لم يستطع تخطيها بعد، اي الفشل في تحقيق عناصر التحديث الاجتماعي الملائمة لعصرنا الحالي، فليس غريبا ايضا ان الفكر، بما في ذلك الفكر الفلسفي، يعيش حالة مماثلة من التخبط والاجتزاء والعشوائية. وحتى المحاولات الجميلة والقوية التي ولدها هذا المخاض الفكري والاجتماعي في بعض الحالات، لا تزال محاولات متفرقة متقطعة متواضعة بمعايير الفكر العالمي وفلسفته الأكثر تقدما
 وتجذراً.