طالب كاظم
كانت مرهقة جدا بقوقعتها المفلطحة وأعوامها المئة وهي تزحف ببطء ممل عند الحافات الضحلة للساحل الذي امتد حتى اللسان الرملي، حيث قوارب صيد الهامور وسمك الصبور الفضي والروبيان.
الصيادون الذين يتذكرون أعوامها المبكرة قبل أن ينتهي بها الأمر كسلحفاة مسنة، لم يعد لهم أي أثر، قضوا نحبهم منذ سنوات عديدة، باستثناء النساء الأرامل بعظامهن الرخوة ومفاصلهن التي التهمها النقرس وذاكرتهن التي نخرها النسيان، لا أحد هنا أو هناك يتذكرهم وهم يرقدون إلى الأبد في نواويس طمرها الغبار والاهمال.
حين غادرت موطنها في عامها الأول، لم تكن تدرك أن المكان الذي وجدت نفسها وهي تزحف صوب الضفاف الرملية الضحلة، سيكون موطنها الذي ستعود اليه مرارا وتكرارا.
عندما عادت كانت السلحفاة قد نضجت وباتت أنثى بالغة تستطيع اطلاق بيوضها المخصبة، عند الضفاف القديمة نفسها، حيث تضع بيوض السلالة، كما فعلت أسلافها الأمر نفسه، كانت في عامها الخامس والعشرين، حينما نامت تحت ظلال نخيل التمر التي امتدت على طول الساحل الرملي، لا أحد له رغبة بإزعاجها، لا الصيادين ولا المزارعين الذين يمضون إلى حقولهم لجني ثمار الطماطم الناضجة وجمع الكرات والثوم ولملمة بيض البط السارح في المكان الهادئ، في عامها الثلاثين كانت تشد عضلات بطنها، لكي تدفع بالبيوض في الحفرة الصغيرة، عندما تفاجأت بالنيران تلتهم جذوع النخيل، كان الأوان قد فات على الهروب حينما شاهدت الضفاف مهجورة، كان المكان نفسه، إلا أن ملامحه تغيرت كثيرا حتى أخذت تشكك بذاكرتها.
كانت الانفجارات تقضم صمت المكان الموحش، وجدت نفسها مرغمة على حفر الرمال، لكي تضع بيوضها اللزجة، كما تعالت اصوات الانفجارات العنيفة، حينما عادت بخطواتها المتمهلة الى النهر العريض عندما ارتفعت مياه المد وباتت قريبة شعرت بقوقعتها تتصدع، شعرت بالخدر يسري في جسمها، لم تكن تدرك، لأنها لا تستطيع الالتفاف برأسها ورؤية ما حدث لظهرها.
أن ثمة شظية دست نفسها في قوقعتها الهشة، كان الأمر صعبا ومؤلما جدا، لأنها كانت تزحف بصعوبة، كان الأمر شاقا ومؤلما، فالشظية الفولاذية كانت ثقيلة، والسلحفاة الفتية لم تعد تستطيع العوم بيسر، كما كانت تفعل ذلك قبل أن يشتعل النهر بالحرائق، الشظية التي اعاقت حركتها، باتت كمرساة فولاذية تسحبها الى الاعماق، كانت تكافح للوصول الى البحر العميق، إلا أنها لم تستطع الابتعاد سوى خطوات معدودة عن الضفاف التي عكست ضوء أعمدة النيران والعويل والصراخ، حشرت نفسها قرب بيضاتها.
وانتظرت، انتظرت طويلا، بينما القوقعة تدفع بالشظية للتخلص منها ككائن غريب حشر نفسه عنوة، كانت القذائف تنهمر كالمطر ولم يتبق من النخيل سوى جذوع انتصبت كأعمدة هشة لليباب من الفحم والرماد، حين فقست بيوضها وزحفت السلاحف الصغيرة لمغادرة الضفاف في طريقها الى البحر، ولكنها وجدت نفسها لا تستطيع المغادرة، فمكثت في مكانها، توالت عودة صغارها التي نضجت وهي تعيد سيرة الاسلاف الأوائل، إذ كانت تطلق بيوضها المخصبة، في المكان نفسه، كانت السلحفاة الأم التي باتت الجد الاول للسلالات الجديدة، برغم حزنها كانت تشعر بالأمل، أنا ظننت ذلك بأنها كانت تشعر بالأمل والأمر لا يعدو عن كونه مشاعر واحاسيس ليس إلا!
استقبلت صغيراتها الإناث وهن يجددن سيرة الاسلاف الاوائل، عاما بعد عام حتى مضت سنوات عديدة وهي تشهد الحرائق تلتهم السفن الضخمة، التي تتذكر رفاساتها العملاقة وهي تدفع بتيارات المياه العنيفة حينما كانت تجوب اعالي البحر، وقوارب الصيادين الشراعية والسفن الصغيرة، والمعابر الفولاذية التي اقيمت لعبور الدبابات والعجلات المموهة بالطين والخيش ووميض قذائف المدفعية وجثث الجنود المنتفخة، التي عامت على وجه المياه الراكدة، كانت منهكة أكثر مما يجب وهي تنوء بذاكرتها.
حينما توقف أزيز القذائف التي كانت تمرق من فوقها لتنفلق بزعيق فولاذي في الحقول المجاورة، قام احدهم بانتزاع الشظية عن درعها، ثبتها بيده وباليد الأخرى استل الجزء الذي اخترق درعها، في تلك اللحظة انتابتها مشاعر لم تكن تعرفها من قبل ليس الامتنان، كان شيئا اكثر من أن يكون عميقا وغائرا، شعرت بأنها تستطيع المغادرة والذهاب الى البحر واعادة سيرة أسلافها مرة أخرى، زحفت ببطء وهي تتطلع في المكان، الساحل المقفر والرمال وصيحات النوارس وقوارب الصيادين التي اخذت ترسو عند اللسان الرملي الضحل.