أحمد الشطري
إن الرواية باعتبارها عالما حيّا متحركا، يمثل صورة من صور الحياة التي تستلزم وجود بعدين متلازمين يحتضنان مجرياتها هما البعد المكاني والبعد الزماني. ولا يمكن للرواية أن تتحقق من دونهما، مثلما – بتوصيف مختصر- لا يمكن للحياة أن توجد من دون مكان وزمان يستوعبان حركيتها ويضبطان أبعادها.
وسنتحدث هنا عن المكان الروائي وطبيعة التعامل معه في عملية السرد بمختلف فاعلياته وتشكلاته، سواء كان داخليا في ذات الشخوص أم خارجيا في الفضاء المحيط. وتقسيمنا هذا ينطلق من مفهومنا للمكان بأنه الحيز الذي يسمح بالحركة بغض النظر عن ماهيتها، بمعنى أننا نرى أن هناك حركة داخلية شعورية تتعلق بالحركة العاطفية أو المونولوجية للمشاعر، وهي تشغل مكانا مجازيا وليس فيزيائيا، تُستشعر اتجاهاته وأبعاده دون أن يكون لها قياس مسافاتي، وحركة خارجية ذات حيز فيزيائي خاضعة للقياسات المسافاتية.
وكلا المكانين المجازي والحقيقي لابد من تأثيثهما بما يجعل منهما حاضرين بشكل واضح ومكتمل الملامح أمام المتلقي.
إن أهمية المكان تنبع من كونه يمثل المنظور البصري الذي يتجسد فيه الحدث، ومن ثم فإنّ تأثيثه بما يجعل منه فضاء واضحا متكامل الملامح قيمة ضرورية؛ تسهم في تعزيز بلاغة الخطاب السردي. كما إنّ عملية تأثيثه بما يجعل منه عنصرا فاعلا في التأثير الإيجابي لعملية التلقي سواء في اقترابه من الصورة الواقعية أم في غرائبية صورته المتخيلة، تشكل بعدا ثابتا وأساسيا في عملية تكامل البنائية السردية.
وتتم عملية تأثيث المكان بكل ما يمكن أن يجعل منه فضاء مساهما في تنمية الحدث السردي وليس حيزا حاويا له فحسب، إذ تشكل طبيعة المكان مناخا بيئيا يمنح الأحداث صورة اقناعية من جهة، وصورة جمالية من جهة أخرى، وهو ما يتطلب الدقة في الوصف؛ فالحدث التاريخي مثلا يتطلب توفير حيز ينسجم مع بيئة ذلك الحدث، وهو ما يتطلب معرفة تامة بالجغرافية التاريخية للمكان الذي تدور فيه الأحداث وطبيعة العناصر التي يمكن أن تؤثثه، في حين يتطلب الحدث المستقبلي تأثيثا جغرافيا وسسيوثقافيا يتماهى مع صورة المتخيل المستقبلي، وكذا مع الحدث الآني، رغم أن المكان الروائي هو في حقيقته مكان متخيل وليس مكانا واقعيا وإن حمل صورة الواقع، سواء من حيث الشكل الموصوف، أم من حيث الاسم.
على أننا لا بد أن نشير إلى أن حديثنا هنا ليس عن الوجود الوجوبي للمكان باعتباره جزءا أساسيا في جسد الحياة لا يمكن أن تقوم بدونه، بل نتحدث عن طبيعة تأثيثه سرديا بما يسمح لحركة الحدث السردي الظهور عبر فضائه بالشكل الذي ينسجم مع طبيعة ذلك الحدث.
وتختلف أهمية المكان بحسب أثره في الرواية، فالروايات التي تتعامل معه كحيز حاضن للحدث فحسب، لن يكون ذلك المكان عنصرا مؤثرا في نمو ذلك الحدث، فهو كأي مكان لا يتسم بخصوصيات فاعلة ولن تؤثر عملية استبداله بمكان آخر على سيرورة الحدث، والأمثلة على ذلك كثيرة عالميا وعربيا وعراقيا، وهو ليس بالأمر السلبي أو المخل بأهمية الرواية وجودتها، ولكن طبيعة وجوده تفرض أن يكون عنصرا مكملا وليس فاعلا، كما في رواية ماركيز "ذاكرة غانياتي الحزينات"، أو رواية "لا أنام" لإحسان عبد القدوس، أو رواية "ستاركس" لعلي لفته سعيد، في حين يشكل المكان عنصرا فاعلا في بعض الروايات لا يمكن استبداله بمكان آخر؛ إذ أنه يساهم بشكل مؤثر في نمو الحدث من خلال علاقة التعالق بينه وبين ثيمة الرواية أو انفعالات وتفاعلات شخصياتها، وهذا ما يستلزم تأثيثا يتسم بالقوة الاقناعية من خلال التأثيث السوسيوثقافي الذي يمنح المكان هويته التي تجعل الثيمة تتسم بالموضوعية والصدقية، وهذا ما يمكن أن نجده ممثلا في رواية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف وكذلك العديد من روايات نجيب محفوظ التي احتفلت بالمكان بشكل كبير وجلي، ورواية "ثلاثية غرناطة" لرضوى عاشور.
في حين يمثل المكان في بعض الروايات عنصرا رئيسيا في ثيمة الرواية، باعتباره أحد الشخوص الرئيسين من خلال أنسنته، وهذا ما يمكن أن نجده في رواية "أصوات من هناك" لنعيم آل مسافر على سبيل المثال، حيث نجد أن المكان في بعض أجزاء الرواية يتقمص دور الراوي؛ ليكون شاهدا على الأحداث التي جرت عليه.
وتبرز قيمة المكان في الرواية من خلال العلاقة المترابطة مع الشخصيات والحوادث، تلك العلاقة التي تتسم بالتأثير والتأثر، وفقا ليوري لوتمان الذي يرى أن "المكان حقيقة معاشة ويؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه" إذ غالبا ما يعكس المكان الصورة السسيوثقافية وربما الأنثروبولوجية للشخوص الذين يشغلونه، إذ يمكن أن يقدم لنا من خلال بعض تشكلاته القيمة المعرفية لأولئك الأشخاص الذين يشغلونه وعاداتهم ومعتقداتهم وتركيبتهم الاجتماعية، فهو في كثير من الأحيان يكون أشبه بالمرآة التي تعكس لنا ما يواجهها أو يقع في دائرة رؤيتها.
ولا شك أن كل سارد له أسلوبه الخاص، وفقا لرؤيته الفنية، وقدراته الإبداعية، وتمكنه من استخدام أدواته الاستخدام الأمثل في عملية التعامل مع المكان بما يخدم بناء سرديته بالشكل الذي لا يجعل من عملية الوصف تفقد المتلقي تواصله مع سيرورة الأحداث؛ مثلما لا تجعله يشعر بضبابية الحيز المكاني بمختلف أدواره.