المطبخُ العراقيّ.. ميراثٌ غنيٌّ وتقاليدُ خاصّة في الطهي

ريبورتاج 2024/03/26
...

 رحيم رزاق الجبوري

تذكر المصادر بأن تاريخ المطبخ العراقي أو مطبخ بلاد ما بين النهرين تعود جذوره لآلاف السنين. وتدرج بالتطور منذ عصر السومريين والأكديين والبابليين والآشوريين. وقد وثقت تلك المصادر عثور بعض من الألواح التي وجدت في الآثار القديمة في العراق، تظهر وصفات لتحضير الطعام الذي كان يعد في المعابد أثناء الأعياد الدينية. وتعتبر هذه الألواح من كتب الطبخ الأولى في العالم والعراق القديم، كما وضحت بعض النقوش الأثرية موكبا من الخدم يجلب الطعام لمأدبة الملك الآشوري سنحاريب.

فبلاد ما بين النهرين كانت مهدا لحضارات كثيرة متطورة ومتقدمة للغاية في جميع ميادين المعرفة، بما في ذلك فنون الطهي. وحينما كانت بغداد عاصمة للخلافة العباسية بلغ المطبخ العراقي ذروته. واليوم يعكس هذا الميراث والتاريخ الغني فنونه المتنوعة، فضلا عن تأثيراته القوية من تقاليد الطهي على جميع دول العالم.

المطبخ السومري
ويرى حاتم ثويني (دكتوراه بعلم الأنثربولوجيا): "أن رغيف الخبز في العراق القديم كان يخبز بالتنّور بالطريقة المتعارف عليها نفسها حاليا، بالإضافة إلى تسميته السومرية الأصل. وكان الرمز المسماري للأكل في اللغة السومرية، هو علامة (الفم) مع علامة (الخبز) في داخله وكلمة «أكالو» الأكدية تعني "يأكل" وكلمة "أكلو" تعني الخبز. وتذكر لنا ملحمة گلگامش قصة أنكيدو عندما بدأ يتعلم الحياة المدنية على يد شامات، فقد كان أول ما تعلمه هو طريقة أكل الخبز بدلا من ارتضاع الحليب من حيوانات البر. وبحسب النص السومري: "كلِ الخبز، يا أنكيدو، فطعم الخبز بهجة الحياة". وتفيدنا السجلات الآثارية بأن سكان وادي الرافدين القدامى كانوا يصنعون أكثر من 300 نوع من الخبز، الفطير وغير الفطير، وهم أول من اكتشف واستعمل الخميرة؛ حيث كان المطبخ السومري قائما على الخبز، وقد اقتبس المطبخ الفرنسي منه هذه الصفة. فكلمة كعك تسمى "كعاتو" باللغة الأكدية في العراق والـ"كعك" هي أصل كلمة (كيك cake). إضافة إلى (الكليچة) التي تعتبر عراقية الأصل، وكانت معروفة لدى البابليين والآشوريين، ويرجح إنها سومرية أيضا. علما أن العراقيين أول من صنع البيرة في العالم. فالبداية كانت بالعصر السومري في العراق القديم حيث كانت تسكب بجرة كبيرة داخل المعابد، ويتم احتساؤها عن طريق القصبة، حتى أنها كانت تُعطى كأجور للعمال".

مأدبة آشور ناصربال
ويضيف ثويني: "تعتبر وجبة التشريب من أكثر الوجبات المحببة في العصر السومري بالعراق. وكانت تصنع بتقطيع رغيف الخبز، ومن ثم يثرد في صحن ليتشرب بمرق اللحم، ويوضع فوقه اللحم والبصل والحمص المسلوق، وقد عرف السومريون أكثر من 35 نوعا من المرق حيث كتبوا وصفاتها على ألواح طينية لتكون أول دليل طبخ في التاريخ وما زالت هذه الأكلات تطبخ وتؤكل بنفس الطريقة والكيفية التي عرفها الناس بالعصر السومري، بالإضافة إلى 70 نوعا من الجبن.
إضافة إلى أكلة الكبة التي تعود للعصر الآشوري، حيث كانت تعرف باللغة الأكدية باسم (كبتو Kippatu) وتعني الشيء المدور وهذا يوضح بأن شكلها كان مدورا مثل الكبة الحالية. وقد وردت نوعية ثانية للكبة باسم (كبي وكبو) وأشهر ذكر للكبة في تاريخها كان في مأدبة الملك أشور ناصربال التاريخية حيث تم ذكر مقاديرها وطريقة تحضيرها بالتفصيل الدقيق، وهي نفس الطريقة التي تستعمل حاليا".
مطبخ عريق
إلى ذلك يقول، علي الدليمي (شيف عام، خاض العمل بمضمار الطبخ منذ 18عاما وحاصل على شهادة الاستدامة من Wax و Hasp ISO وعضو في عدة جمعيات تعنى بالطهي في العراق وخارجه): أن "تاريخ المطبخ العراقي عريق منذ بدء الحضارة العراقية. وفي كل اكتشاف تظهر لنا تركيبات وتشكيلات ووصفات محددة ومكتوبة. وهذا يدل على الاعتناء الكبير بحفظ المقادير للاستمرار بنفس الطعم والجودة، سواء كانت مشروبات روحية أو عصائر وغيرها. وتشير بعض النصوص منذ 2500 (ق.م) إلى طريقة عمل عصيدة لحوم الطيور وتبرز فيها نوع الطير والصاع الذي يقابله من كل مادة استنتاجا إلى حجم الطير، وهذا يصف دقة في تشكيل الطبق، بما يسمى الآن بالمطبخ الحديث (كوست الطبق) أي ثنايا ومواد وتكلفة الطبق. وأعتقد أن فكرة الاتقان استمرت في تطور المطبخ العراقي بمرور الزمن. وقد تأثر بكل احتلال أو غزو تعرض له واندمجت بعض الأفكار والموائد فيه. وكذلك اختلاف الثقافات المجاورة التي أسهمت باستنباط بعض النكهات والتجارب الجديدة. إلى أن وصل إلى العصر العباسي فكان هناك اهتمام بالغ بالمطبخ والولائم بل وحتى طرق التقديم وإعداد الولائم (بما يسمى الآن الفود بارتي أو الأوبن بوفي)، فكانت الدقة والترتيب وتنظيم ورص المواد حاضرة حسب الوليمة. ولكن مما يؤسفني في الوقت الحالي أن أقول إن هوية المطبخ العراقي في تشتت وضياع، بل إن بعض الطباخين العراقيين ينسبون أطباقا عراقية مثل الباﭽة وبعض العصائر والدولمة إلى دول مجاورة تأثيرا بما يسطر في الكتب؟".

ثريّ ومتنوّع
من جانبه يشير الشيف فراس القيسي (معد ومقدم برنامج مطبخ ديوان) إلى: "أن المطبخ العراقي عريق ومتنوع. ويضم جميع الطبخات القديمة والحديثة، بفنونه ووصفاته وأدواته. وقد بلغ المطبخ البغدادي قمة في الذوق إبان العصر العباسي، وتفرعت منه أغلب مطابخ المناطق المحيطة؛ بسبب طعمه وحسن إعداده ومذاقه ونكهاته، ومن أشهر الأطعمة التي ما زالت تطهى لغاية الآن المرق بأنواعه (مرق اللحم، والمرق الأحمر، وغيرهما)، كما أن سكان بلاد الرافدين هم أول من اكتشف العصائر والعديد من الأطعمة، واستخدموا أفضل التوابل منذ القرن الثاني الميلادي، وهي (الكمون، والهيل، واليانسون، والثوم، والبصل) وهي مكونات نموذجية للطهي الحديث، وكذلك استخدموا (الزعفران، ومشروب الرمان الحامض ومحلول الكبر المملح) التي يصنعون منها الصلصة الحامضة. وأبدعوا في عمل الحلويات، لا سيما الحلوى المحشوة التي تشبه الكعك (الكليچة). ومن الطبخات الأكثر رواجا، هي لحم الغنم المشوي (تكة لحم) والكباب العراقي والباذنجان المحشي واللحوم المشواة بالتنور. كما اشتهر المطبخ العراقي أيضا بطرق عديدة لشيّ الدجاج، ولا ننسى السمك المسگوف، والفسنجون، الذي يعد من الطبخات المشهورة في جنوب العراق".

لذائذ من جنة عدن
نوال نصر الله (أستاذة جامعية وباحثة متخصصة في تاريخ وثقافة الطعام العربي) تتحدث في كتابها الخاص بالطبخ، الموسوم: (لذائذ من جنة عدن: المطبخ العراقي وتاريخه وحضارته)، الذي يحتوي على أكثر من 400 وصفة، وتم تقديم كل منها من خلال روايات تاريخية وثقافية وفولكلورية مدروسة بدقة وعمق ويحكي القصة الرائعة للمطبخ العراقي. ومن خلال تصفح صفحاته يمكن للقارئ بسهولة أن يدرك ثراء فنون الطهي العراقية عبر العصور، حيث يتتبع الكتاب تاريخ نشوء وتطور الوصفات العراقية على مدار القرون، بدءا من الحضارات السومرية والبابلية، ومرورا بالعصر العباسي وحتى الوقت الحاضر بالصور والألوان، وصنف على أنه أفضل كتاب طبخ عربي في المملكة البريطانية المتحدة) إذ تقول: "من كان يظن أن طبق (المرگة) الرئيس اليومي تم طهيه من قبل السومريين والبابليين والآشوريين، سكان العراق القدماء؟ ومن كان يظن أن أول كتاب طبخ موثق كتب على الألواح المسمارية على يد العراقيين القدماء أنفسهم عام 1700 (ق.م) وأن أقدم كتب الطبخ في العصور الوسطى المكتوبة في جميع أنحاء العالم جاءت من بغداد خلال الخلافة العباسية؟ فقد لعب السومريون والأكديون، الذين يشار إليهم مجتمعين باسم سكان بلاد ما بين النهرين القديمة، دورا مهما في تشكيل الشرق الأدنى لمدة 3000 سنة قبل المسيحية. ويكفي أن نقول إن ملحمة گلگامش وقوانين حمورابي تشهد جيدا على المستويات الثقافية المتطورة التي وصلوا إليها، والتي امتدت بطبيعة الحال إلى مطبخهم".

تشابهات اشتقاقيَّة
وتضيف: "ومن السجلات الأثرية الموجودة، نعرف أنهم صنعوا حوالي 20 نوعا من الجبن، وكانوا يعرفون أكثر من 100 نوع من الحساء، وحوالي 300 نوع من الخبز. وتشير المراجع إلى أن جميع تقنيات الطهي الرئيسة، التي نعرفها اليوم، كانت معروفة لهم مع التشابهات الاشتقاقية: تحميص "شوو" (عربي شوي)، كلمة "كبابو" الأكدية، تعني "إشعال النار أو الحطب (عربي كباب) والسلق بالأكدي سلقو، والقلي بالأكدي قلو، وهكذا".

عالِمُ الآشوريات
وتختم، نصر الله مداخلتها بالقول: "تطلعنا المصادر، إلى أنه تمت كتابة أول "كتب الطبخ" على أرض بابل منذ أكثر من 3700 سنة. إذ اكتشفت ثلاثة ألواح مسمارية يعود تاريخها إلى عام 1700 (ق.م) في أوائل القرن العشرين في موقع بابل القديمة. وتم شراؤها من قبل مجموعة ييل البابلية، وكان يعتقد في البداية أنها نصوص صيدلانية. لكن الفحص الدقيق الذي أجراه عالم الآشوريات الفرنسي جان بوتيرو كشف أنها أول وصفات طهي مسجلة. وتمكن بوتيرو من العثور فيها على ما يكفي من النص للكشف عن مطبخ يتمتع بالثراء المذهل والتحسينات والرقي والفنية. كما اكتشف فريق أثري إيطالي-عراقي مؤخرا طبقا فيه عظام سمك بالقرب من آثار مدينة أور القديمة في جنوب العراق يعود تاريخه إلى ما قبل 4500 سنة، ويقولون إنه أظهر علامات تشير إلى احتوائه على بقايا وجبة مسگوف، وطبق كردي مشهور يسمى (بردة بلاو)".