ترجمة: مظفر لامي
ولدت حركة رسم الجداريات المكسيكية في الأصل، استجابة للحاجة لتعزيز الشعور القومي في بلد يعاد بناؤه بعد الثورة. وهي تمثل إعادة إحياء لرسم الجداريات الذي كان شائعًا في تاريخ الشعوب القديمة، كشكل فني ذي أهمية وتأثير اجتماعي واسع. وكانت نشأتها إيذانا بظهور لغة بصرية غنية في الأماكن العامة، جعلت الفن في متناول الجميع، وهيأت فرصة لتثقيف وجذب انتباه الرجل العادي لمضامين مهمة، مثل الهوية الثقافية والسياسية، والقمع والمقاومة، والتقدم، وغيرها من القضايا المهمة في زمنها.
كذلك تميزت باستقلاليتها التامة، فقد رفض العديد من فنانيها الأوائل الإملاءات الخارجية، واستخدموا هذا النمط الفني الجديد الرحب والحر، للتعبير عن رؤاهم الشخصية. لقد أثبتت هذه الحركة أن الفن يمكن أن يكون أداة توصيل فعالة خارج حدود قاعات العرض والمتاحف.
للمكسيك تراث قديم في الرسم الجداري يعود إلى فترة ما قبل الإسبان، وبالتحديد لحضارة الأولمكس التي أنتجت بعضًا من أقدم فنون الرسم المعروفة في أمريكا الجنوبية، وهذا التقليد استمر في ظل الحكم الإسباني، إذ تم استخدام فن الجداريات لتعريف الشعب المكسيكي بالقصص والأفكار الكاثوليكية. ومنذ تلك الانطلاقة، أصبحت اللوحة الجدارية أحد أكثر الأنماط الفنية السائدة في الثقافة المكسيكية التي تتمتع بقوة تأثير تشمل جميع أنحاء البلاد، وهذه الميزة جعلت من هذا الفن منصة جاهزة للترويج السياسي، وكانت حافزا لولادة حركة الجداريات في هذا البلد.
في عام 1910 بدأت الثورة المكسيكية بانتفاضة ضد حكم بورفيريو دياز، وكان من نتائجها اندلاع حرب أهلية دامت عقدًا من الزمن، بقيادة عدد من القادة السياسيين الذين كان لهم تأثير كبير في تحديد مسار الثورة وفي نشأة فن الجداريات، إذ اجتمع هؤلاء مع عدد من المثقفين ذوي التطرف السياسي، وكان من ضمنهم خوسيه غوادا لوبي بوسادا وجيراردو موريللو، أو ما يعرف بالدكتور أتل الذي كتب في عام 1906 بيانًا يعلن فيه الحاجة لحركة فنية جديدة، تهتم بمصالح وواقع الشعب المكسيكي. وهذه الوثيقة تمثل بداية مهمة لحركة رسم الجداريات المكسيكية التي لقيت في وقتها تأييدًا وترحابا من قبل كثير من الفنانين، وكان من ضمنهم دييغو ريفيرا. وفي عام 1920، اتخذت الحكومة الجديدة قرارها باتباع خطى دكتور أتل، وقامت بتكليف الفنانين بعدد كبير من الأعمال الفنية العامة التي تعزز وتدعم القيم الأساسية للثورة، وتساعد في إنشاء هوية جديدة للمكسيك، تستلهم التقاليد التاريخية الغنية للبلد، بجانب تطلعها للمضي قدمًا نحو العصر الحديث. تجدر بنا الإشارة إلى أن معظم الشعب المكسيكي كان في ذلك الوقت من الأميين، الأمر الذي تعذر معه الترويج لرسالة الحكومة الجديدة من خلال وسائل الإعلام التقليدية مثل المنشورات والصحف، وكان الخيار الأمثل الاستعاضة عنها بالجداريات التي تنصب في الأماكن العامة لتوصيل قضيتها. ومن أجل هذا الهدف، وظفت الحكومة أبرز فناني المكسيك في ذلك الوقت، وكان البعض منهم ممن عاشوا في أوروبا قبل الثورة، وكانوا على دراية جيدة بالحركة الواقعية في أوروبا التي استُخدم فيها الرسم لإظهار الظروف القاسية التي تعيشها الطبقات العاملة، الأمر الذي كان له تأثير مهم في طبيعة وأسلوب حركة الجداريات المكسيكية.
برز في الحركة ثلاثة قادة أطلقت عليهم الأوساط الفنية آنذاك تسمية (الثلاثة الكبار)، وهم كل من ديفيد ألفارو سيكيروس وخوسية كليمنتي أوروزكو ودييجو ريفيرا. وكان ريفيرا الأشهر بينهم، إذ عرف بأسلوبه الذي يجمع الحداثة الأوروبية والسمات التكعيبية، جنبًا إلى جنب مع الألوان الزاهية لتصوير أبناء شعبه وخاصة الطبقة العاملة. بينما استلهم أوروزوكو أسلوب المدرسة التعبيرية الأوروبية؛ لتصوير المعاناة البشرية وأهوال الحروب ومخاوف الاعتماد المستقبلي على التكنولوجيا. أما سيكيروس فكان حينها شابا ذا ميول راديكالية، تميزت جدارياته بتقنيات ومواد عصرية، امتزجت فيها رؤى العلم والمكننة لتصوير مظاهر التقدم. وبالرغم من اختلاف هؤلاء الثلاثة في المثل والمعتقدات السياسية، إلا أنهم كانوا متفقين على أن يكون الفن، باعتباره أكثر أشكال التعبير تأثيرا، جزءًا حيويًا من هوية المكسيك الجديدة، وأن يستخدم لتعليم وتطوير المجتمع.
خلال أعوام قليلة، أصبح للجداريات المكسيكية تأثير في الأوساط الفنية، وخصوصا في الأمريكتين. فقد أسهمت الزيارات التي قام بها ريفيرا وأوروزكو وسيكيروس إلى الولايات المتحدة، بالتأثير في مشروع الأشغال العامة للفنون الذي أطلقه الرئيس فرانكلين روزفلت، والذي هدف لتوفير فرص عمل للفنانين والحرفيين خلال فترة الكساد الكبير، وإنشاء جداريات ومنحوتات ملحقة بالمباني العامة، تسهم في رفع الحالة المعنوية للمجتمع. وكانت الفكرة مستلهمة من برنامج الجداريات العامة للحكومة المكسيكية بعد الثورة. من جانب آخر، كان للجداريات المكسيكية تأثير في ظهور الواقعية الاجتماعية الأمريكية خلال فترة الكساد الكبير، إذ بدأ الفنانون في التعاطف والتعبير عن الحقائق المروعة في حياة الطبقة العاملة، وسعوا لتوجيه الأنظار للفجوة بين الأغنياء والفقراء. كذلك شمل تأثيرها فناني مدرسة أشكان، مثل إدوارد هوبر، المعروف بتقديم منظور نيويورك للحياة، وفنانين آخرين مثل ريجينالد مارش الذي صورت لوحاته الجزء الكرنڤالي من الطبقات الاجتماعية، ولاحقا ستكون بمثابة الملهم لحركة فن الشيكانو الذي سيلقى رواجًا واسعًا.
في المكسيك وأمريكا الجنوبية، لا تزال اللوحات الجدارية شكلاً فنيًا مهيمنًا، يشهد انتشارا ملحوظا من خلال مشاريع فن الشارع التي تقام في العديد من مدن أمريكا الوسطى والجنوبية. وقد حافظ هذا الفن، في شتى بقاع العالم، على تأثيره الفكري والجمالي، ودوره الحيوي في الثقافة العامة.