الهويَّة : بين الأنسنة والشيأنة

ثقافة 2024/03/27
...

كمال عبد الرحمن



قبل الدخول في مناقشة كتاب( الهويات القاتلة) لأمين معلوف، لابد لنا أن ندخل في حديث “ الهوية”، نتكلم عن ماهيتها وعناصرها ومرجعياتها، جاء في (المعجم الفلسفي) أن مصطلح “الهوية” ليس عربياً في أصله ، وإنما اضطر إليها بعض المترجمين، فاشتق هذا الاسم من حرف الرباط، أعني الذي يدل على ارتباط المحمول بالموضوع في جوهره، وهو حرف (هو). وهناك من يميّز بين (الهَوية- بفتح الهاء) و(الهُوية- بضم الهاء)، حيث يرى “سعيد التل” بأن معنى (الهَوية- بفتح الهاء) يختلف اختلافاً بيّناً عن معناها (بضم  الهاء) ، فالهَوية (بفتح الهاء) تعني على الصعيد المعجمي العربي القديم، “المَزيّة” البئر بعيدة المهوان، والهُوّة، البئر أو الحفرة البعيدة القعر كما جاء أيضاً في لسان العرب، أما كلمة (الهُوية) (بضم الهاء)، فهي كلمة “جديدة طارئة على اللغة العربية”، حيث أن مصطلح (الهُوية) لا يمت في حد ذاته بصلة إلى جوهر اللغة العربية “فهو طارئ عليها”. إن المعاجم العربية القديمة تخلو من كلمة (الهُوية- بضم الهاء)، ولا نجد هذه الكلمة حتى في المعاجم الحديثة ومع ذلك فإنها قد استقرت كاصطلاح له تعريفاته التي تعكس مفهوم المعرفين له”كما يرى “ سعيد التل” كذلك،ويشرح لنا (فتحي المسكيني) طبيعة التمايز والتشابه بين (الهَوية والهُوية) وأصلهما في اللغة العربية، فيقول: إن “فلاسفتنا القدامى قد استعملوا لفظة (هُوية) المتحولة من الضمير المفرد المذكر الغائب (هو)، بوصفه مقابلاً للفظة (إسنين) في اليونانية و(هسسن) في الفارسية، للدلالة على وجوه المعنى الذي أقرَّه أرسطو لمفهوم الوجود، وأن لفظة (الهُوية) مستعملة في ترجمة (مابعد الطبيعة)، التي فسرها (ابن رشد) للدلالة على معنى (الوجود) في اليونانية”. ويضيف” المسكيني” قائلاً :”إن الانزياح من لفظة (هُوية) من المعنى الأُنطولوجي (الوجودي) الدالّ على معنى الوجود، كما استعمله الفارابي وابن رشد، إلى المعنى الابستمولوجي (المعرفي) الحديث للأنا معمول به منذ ديكارت إلى كانط، هو واقعة فلسفية”(، وبذلك ثم التحول من “(الهُوية) الوجود (الأُنطولوجيا) إلى (الهُو) الفينومينولوجي (الظاهراتي) الذي استكشفه المحدثون، وأيضاً إلى الطرح الإنثروبولوجي (علم الأناسة- الإنسانيات) والثقافي لمسألة (الهَوية) كما صار شائعاً اليوم”. فإذن حسب رأي (فتحي المسكيني) أيضا فإن “لفظة الهَوية- identite” في مستوى اللغة العادية العربية الحديثة  (غير الفلسفية)  تشير إلى (نحن) إنثروبولوجية وثقافية،  يختلف عن (الهُوية ipsete) التي تقع في مستوى اللغة الفلسفية، نحن نشكل لفظة (الهَوية- بفتح الهاء)، حتى نميزها عن لفظة (هُوية- بضم الهاء)، وإن كان هذا مجرد استحداث للفصل، كما في الفرنسية بين مصطلحي( (identite وipseite)   )فهو اختيار له دلالة تأويلية”. إذاً هناك عدة تحولات (انزياحات) من (هُو) نحوي (ضمير مفرد مذكر غائب هو) إلى (هُو) منطقي إلى (هو) انطولوجيا (وجودي)، ومن ثم إلى (هُوية) أنطولوجية في الفلسفة العربية إلى (هَوية)، لكن المهم في كل هذا سواء جاءت “ الهوية” من “ الهو” الفرويدي، أو من “ المزيّة” كما يزعم صاحب لسان العرب، فإننا نرى أن الهوية ( هي كائن حي) مرادف ومرافق ومصاحب وملاصق للإنسان، فهو روح الإنسان وشخصيته وسيرته الذاتية ووجوده ومصيره، هذه هي الهوية كما نرى، لذلك ترتبط” الهوية” ارتباطاً حميمياً مصيرياً بالكائن البشري وغير البشري، فكل مخلوق له هويته الخاصة، وهذه الهوية ليست صفة دائمية ترافق الإنسان في حياته، فكل يوم يمرُّ على الإنسان تكون له هويته الخاصة المتجددة، ولكي نوضح ذلك، يجب علينا أن نبين أن  بناء الهوية  يتشكل من قسمين ( قسم داخلي) و(قسم خارجي)، فالداخلي يتعلق بشخصية الإنسان وتكوينه الداخلي(فهناك اختلاف بين هوية المجنون وهوية العاقل مثلا) أما القسم الخارجي فيعمل على عدد من المرجعيات كـ( السياسية والثقافية والاجتماعية وغيرها) ومن هنا تتشكل هوية الإنسان، بقدر تفاعلها مع القسمين الداخلي والخارجي، لذلك قلنا إن الهوية لاتمنح مرة واحدة، إنما هي تتشكل كل يوم بصورة وهيئة وشخصية مختلفة، فتضعف في الأمراض والحروب والمجاعات والكوارث، وتقوى وتتطور في الطمأنينة والأمان والرفاهية وما إلى ذلك، فالهوية هي كائن تابع للإنسان، إذا ضعف الإنسان ضعفت معه، وإذا نجح وتطور، تطورت معه وهكذا.

في كتاب: الهويات القاتلة”  يكتب أمين معلوف ( الذي هرب من لبنان بسبب الحرب الأهلية، واستقر في باريس، ثم صار من هناك يشتم الإسلام والمسلمين)، يكتب عن  “الهويات القاتلة” وهو يرى أن هويتنا ــ نحن العرب المسلمين ــ ليست إلا( لحية طويلة، وحجاب، وملاءات)، وهويعتقد أن بلادنا لاتملك إلا هوية واحدة هي ( الهوية الدينية الإسلامية حصراً)، وهذه الهوية  ـــ بحسب رأيه  ـــ ليست إلا سلاحاً من أسلحة الإرهاب الإسلامي، الذي يحاول القضاء على الإنسانية وبالذات الحضارة أو المدنية الغربية.

وأمين معلوف مخطئ للأسباب الآتية:

•  نسي  أو تناسى معلوف عندما طالب بتغيير هويته العربية إلى هوية غربية( فرنسية)، أن الشرط الأول في بناء هوية الإنسان هو “ مسقط الرأس” والثاني: اللغة، والثالث : المكان، وهذه شروط مهمة لايمكن تجاوزها.

•  اعتقد معلوف أن الإنسان ممكن أن تكون له أكثر من هوية، وهذا خطأ لأن الهوية تشبه فصيلة الدم لايمكن تغييرها أو الاستغناء عنها.

• حتى لوافترضنا جدلاً أن معلوفاً حصل على “ هوية هجينة أو مهجنة” فهذا الأمر لاينجح، فلايمكن مثلا تغيير هوية الإنسان العربي، مهما فعل، أو سافر، أو اعتلى مناصب، أو تكلم بلغة أخرى، كلها أمور تعجز عن تغيير هوية العربي.

• كتب معلوف عن الهويات التي افترض أنها هويات قاتلة من باب الغضب والحزن والقلق الذي ضربه نتيجة الحروب في لبنان، والتي اعتقد أن لها سبباً واحداً هو المسلمون، وهذا رد فعل غير منطقي، فلو دقّقنا سنجد حالات عكس ذلك، فكثير من اليهود العرب الذي هاجروا إلى إسرائيل، مازالوا يعتزّون بعروبتهم وبلادهم العربية ( التي يعتقدون أنها بلادهم)،  وهم لايتنازلون عن حبها واستذكار حياتهم فيها.

• أضف إلى ذلك كله، مافعلته دولة قطر مؤخراً وأميرها وشعبها في كأس العالم من معجزات أدهشت العالم، الذي فتح عينه على حب المسلمين والعرب واعتزار شعوب الأرض بالهوية العربية الإسلامية.

يقول أمين معلوف:

((منذ أن غادرت لبنان في عام 1976 لأستقر في فرنسا، سئلت في مرات عديدة، بأفضل ما في العالم من نوايا، إن كنت أشعر أولا بأني فرنسي أو لبناني، وكنت أجيب دائماً” هذا وذاك”)) وهذا الكلام غير منطقي من باب تعريف الهوية، التي شرط من شروطها( مسقط الرأس) و(اللغة )و (المكان)، فلايمكن لأحد أن تكون له هوية بالمصادفة أو عن طريق السفر، أو الهرب من موطنه إلى مكان آخر يعتقد أنه موطنه الجديد، لايوجد للإنسان الا موطن واحد وهوية واحدة، ترافقه في حياته وحتى بعد مماته، فالهوية هي الشخصية والكيان والسيرة الذاتية والوجود والمصير والتاريخ.