السياسة والحقوق بين (الإمام علي) و(مكيافيللي)

العراق 2024/03/31
...

 عبدالله الميالي                          


المعروف عن عالَم السياسة في كل وقت أنه عالم لا يعترف بالأخلاقيات والمُثل والقِيّم والمبادئ، فهو عالَم يدور في دائرة المصالح الذاتية والشخصية للحاكِم فقط، وتأسيساً على ذلك فكل حاكم أو ملك أو سلطان أو أمير إذا أراد لسلطانه أو ملكه البقاء والاستمرار أن يلجأ (في الأعم الأغلب) إلى كافة الوسائل والأساليب في هذا السبيل، وإن كانت مُنافية للأخلاق والأعراف والفضيلة. هذه النظرية عمل بها الحُكام الظلمة من الانتهازيين والوصوليين على مدى التاريخ، ولكنها أصبحت نظرية سياسية على يد (نيقولا مكيافيللي) الذي يعدّه الكثيرون من أهل الفكر والفلسفة والثقافة والسياسة بأنه رائد فن السياسة ومؤسس قواعده.

وُلد (نيقولا مكيافيللي) بمدينة فلورانسا في إيطاليا عام 1469م، وعاش في رحاب واقع سياسي بالغ الفساد، إذ كانت إيطاليا في ذلك الوقت مقسمة إلى عدة إمارات يقع بينها صراع وخلاف يصل حتى استخدام العنف والقتل بين حكامها، حيث يعدّون ذلك أسلوباً طبيعياً ومنطقياً في الوصول إلى الحكم والاستمرار فيه، وإن استعمال القوة المفرطة مع الحيلة والخديعة والفجور والتهتك والأنانية هي بنظرهم القاصر مفاتيح النجاح في ذلك.


كتاب الأمير

في هذا الجو من الصراعات والحروب وُلد ونشأ وترعرع (مكيافيللي)، ومعه وُلدت فكرة إنتاج كتابه الشهير في عالم السياسة (الأمير) الذي قام بإهدائه إلى (لورنزو ميديشي) أمير فلورانسا، وقد قدم في هذا الكتاب مجموعة من قواعد العمل السياسي التي صوّرها من واقعه وعصره الذي عاش فيه، ومن أهم تلك الوصايا السياسية ما يلي: 

1– يجب على الأمير أن يخشى كل خصومه، وكثيراً من أصدقائه، ومعظم رعاياه، وأن يتخلص من خصومه وحُساده بكل ما أوتي من قوة، وكلما وجد إلى ذلك سبيلاً.. وأن لا يدخر أي وسيلة في سبيل الهيمنة المطلقة على مقاليد السلطة.. وعلى الأمير الراغب في دوام سلطانه أن لا يعبأ كثيراً بالفضائل، فذلك هو معيار نجاحه السياسي من عدمه.

2– يجب على الأمير ألا يكون طيباً دائماً، وخصوصاً في علاقته مع رعيته، وإنما تكون الطيبة وفق المصلحة وحسب ما تقتضيه الضرورة. 

3– يجب على الأمير ألا يكون كريماً دائماً، لأن ذلك يؤدي إلى فقره ومن ثم انصراف الرعية عنه وعن تأييده.

4– على الأمير أن يكون قاسياً إزاء رعيته، حيث أن القسوة بها يقوم النظام، وتتحقق الوحدة، ويُقضى على الفتنة.

5– على الأمير أن يكون مهاب الجانب يُخشى بأسه بدلاً من أن يكون ليناً محبوباً، ذلك بأن استناده إلى محبة الرعية يعني اعتماد سلطانه على إرادة غيره، بينما قيامه على سياسة إرهاب الرعية يعني استناد حكمه إلى إرادته هو.. وما دام الأمير قوياً ومهاباً فإن الناس في خوف دائم منه.

6– على الأمير أن ينتهج نهج القدماء في علاقاته الخارجية، فيجمع بين أساليب الإنسان، وأساليب الحيوان، ويتعين عليه أن يكون ثعلباً وأسداً في نفس الوقت.

7– ينبغي على الأمير ألا يراعي الضمير إذا كان من شأنه الإضرار بمصالحه، لأن الناس أشرار ولا يُراعون عهداً لأحد، وبالتالي لا يجب الوفاء لهم بعهد أو وعد.

8– إن الأمراء الذين أجادوا أساليب الثعالب وأفلحوا فيها فعرفوا كيف يحيكون الغش والخداع، لازمهم التوفيق دوماً، وكان الرخاء رفيقهم.

9– يجب على الحاكم أن يتزين أمام رعيته وأمام الرأي العام، بحلل زائفة من الوفاء والعدل والحق والإنسانية واحترام العهود .. وأن يُظهر الحاكم أن أعداءه هم المعتدون، والمخادعون، والظالمون، ومنتهكو الحقوق، ومخالفو الوعود والعهود.

هذه هي أهم وصايا مكيافيللي في فن السياسة، وهي كما نرى لا تحتاج إلى تعليق، فهي وصايا لا أخلاقية بكل معنى الكلمة، ولا أدري كيف يُوصف مثل هكذا شخص بأنه (مفكّر)! ويُعد من رواد فن السياسة، بينما المعروف عن المفكر أياً كان، أنْ يكون نتاج فكره هي إسهامات في دفع عجلة الإنسانية إلى الأمام بعيداً عن العنف والقتل والحروب وسفك الدماء، والمفكر الحقيقي هو الذي يُشيع نشر الفضيلة والأخلاق والعدل والإحسان واحترام حقوق الإنسان، وليس إرساء قواعد الرذيلة والشر والباطل والمكر والخديعة والظلم والإرهاب والانتهازية والثعلبية، فيعد كل ذلك طرقاً مشروعة لتحقيق الأماني والآمال، وعلى القاعدة السيئة الصيت (الغاية تبرر الوسيلة).


مدرسة ونهج علي

مقابل هذا الفكر اللا أخلاقي يبرز لنا الفكر الأخلاقي لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، لينتج للإنسانية فكراً أخلاقياً وإنسانياً رائعاً وراقياً، أرسى من خلاله قواعد العمل السياسي الأخلاقي، وهي مبادئ على قدر كبير من الأهمية ينبغي على أهل السياسة عموماً أن يستوعبوها ويعملوا على نهجها، وأن لا يعدّوها من المثاليات التي لا مكان لها في عالَم السياسة. وأهم هذه الوصايا / المبادئ:

1– (استعمل العدلَ، واحذر العسفَ والحيفَ، فإن العسفَ يعودُ بالجلاءِ، والحيفَ يدعو إلى السيفِ) ، شرح نهج البلاغة. الشيخ محمد عبده. ج4 ص731.

2– (أتأمُروني أن أطلبَ النصرَ بالجور فيمن وُليتُ عليه، واللهِ لا أطورُ به ما سَمرَ سميرٌ، وما أمّ نجمٌ في السماء نجماً .. إن إعطاء المالِ في غير حقّه تبذيرٌ وإسراف) المصدر نفسه. ج2 ص246.

هذا ما قاله الإمام علي حين طلب إليه بعض أصحابه من باب النصيحة: (يا أمير المؤمنين: أعط هذه الأموال، وفضّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس) إنهم يُريدون من الإمام تذليل العقبات بالعطاء، وشراء الضمائر بالدراهم، ومفاضلة بعض المسلمين لبعضهم الآخر بمبررات لا أساس لها في التشريع، فكان جوابه هذا الرد الحاسم.

3– (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وأنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد .. هيهات أن يغلبني هوايَ ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القُرص ولا عهد له بالشبع .. أأقنعُ من نفسي بأن يُقال أميرُ المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أُسوةً لهم في جُشوبة العيش) المصدر نفسه، ج3 ص550.

نرى من مجموع هذه الأقوال أن الإمام علي يستخدم جانب الشدة، ولكنها الشدة مع نفسه هو، وليس الشدة التي يستخدمها الحكام والملوك والأمراء ضد الناس والرعية من أجل توطيد حكمهم الظالم الجائر. إنها حالة نادرة جداً لتذويب الذات الحاكمية.

4– (أما بعدُ، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقاراً وجفوة، ونظرتُ .. فالبس لهم جلباباً من اللين تَشوبُهُ بطرفٍ من الشدّة، وداول لهم بين القسوة والرأفة، وامزج لهم بين التقريب والإدناء، والإبعاد والإقصاء إن شاء الله.) المصدر نفسه. ج3 ص498.

هذا ما قاله الإمام علي لبعض عماله عندما بلغه إنه كان يستخدم الشدّة والقسوة مع أهل الذمّة، فكان هذا الجواب الذي هو بمثابة القاعدة الوسطية في التعامل مع الرعية بلا إفراط ولا تفريط.

5– ومن عهده إلى محمد بن أبي بكر حين قلدّه مصر: (اخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، وآسِ بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العُظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك بهم.) المصدر نفسه. ج3 ص507.

6– ومن كتاب له عليه السلام إلى عُمّالهِ على الخراج: (أنصفوا الناس من أنفُسِكم، واصبروا لحوائجهم، فإنكم خُزّانُ الرعية، وَوُكلاءُ الأمة، وسُفراء الأئمة، ولا تحسِموا أحداً عن حاجته، ولا تحبسوهُ عن طِلبتهِ .. ولا تضربُنّ أحداً سوطاً لمكان درهمٍ، ولا تمسُّنّ مال أحدٍ من الناس مُصَلّ ولا مُعاهدٍ.) المصدر نفسه. ج3 ص560.

7– ومن وصية له لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: (لا تقتلوا مُدبراً، ولا تُصيبوا مُعوِراً، ولا تُجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسَبَبْنّ أمراءكم.) المصدر نفسه، ج3 ص495.

8– ومن كلام له وهو بمثابة قاعدة أخلاقية ينبغي التعامل بها في العمل السياسي: (لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين، البخيلُ فتكون في أموالهم نهمتهُ, ولا الجاهلُ فيُضِلهُم بجهلهِ، ولا الجافي فيقطعهم بجفائهِ، ولا الحائفُ للدولِ فيتّخِذَ قوماً دون قومٍ، ولا المُرتشي في الحُكم فيذهب بالحقوقِ ويقفَ بها دون المقاطع، ولا المُعطِلُ للسُنّةِ فيُهلكَ الأمة.) المصدر نفسه، ج2 ص254.

9– يقول الإمام علي مُبيناً رفضه لمبدأ (الانتهازية) الذي يُعدّ من السمات البارزة في التعامل عند السياسيين: (قد يرى الحُوُّلُ القُلّبُ وجه الحِيلةِ ودونهُ مانعٌ من أمرِ الله ونهيه, فيدعُها رأي عينٍ بعد القدرة عليها، وينتهزُ فرصتها من لا حريجة له في الدين.) المصدر نفسه. ج1 ص92.

نجد أن الإمام علي يأنف من استعمال الحيلة وما يتبعها من مكر وخديعة للوصول إلى ما يبتغيه، مع قدرته على ذلك ولكن خُلُقه العظيم ومبادئه الكبيرة ومُثـُله العليا لا تسمح له بالانجرار في ذلك, وهو القائل عندما حاول بعضهم مقارنته بمعاوية: (واللهِ ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدرُ ويفجرُ، ولولا كراهية الغدرِ لكنتُ من أدهى الناس، ولكن كُلُّ غدرةٍ فجرة، وكُلُّ فجرةٍ كفرة، ولكلِ غادرٍ لواءٌ يُعرف بهِ يومَ القيامة.) 

10– ومن كلامه عليه السلام في عهده لمالك الأشتر حين ولاه على مصر، وفي هذا العهد دُرر كثيرة من أخلاق علي بن أبي طالب لا يسع المجال لتناولها كلها: (أنصِف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوىً من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلِم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده.) المصدر نفسه، ج3 ص565.

هذه بعض ملامح وتجليات الفكر السياسي عند الإمام علي، الفكر الإنساني، الفكر الأخلاقي، الفكر البنّاء الذي يخدم المجتمعات والشعوب ويربيها ويعلمها على منهج الفضيلة والقيم والمبادئ والأخلاق. فلا عجب أن تنتصر هيأة الأمم المتحدة لفكر الإمام علي في حقوق الإنسان، فتتبنى مبادئه في عام 2002. بدلاً من النهج المكيافيللي (الثعلبي) الذي جرّ بلدان العالم إلى ويلات الحروب والقتل والإرهاب وسفك الدماء ونشر الرذيلة بكافة أشكالها.