منعم فرات: أنا نحّاتُ الأرض والسماء

ثقافة 2024/04/01
...

 مؤمل رمل

منعم بربوت وادي الجبوري، أو كما يُحب أَن يطلق على نَفسهِ منعم فرات، النحّات الفِطري المُنفَرد، وِلدَ في بغداد عامّ 1900، في جانب الكرخ منها، وتحديداً في محلّة الشيخ عَلي، تعلّم القراءة والكِتابة في الكتاتيب، وقدَّم الكثير من المنحوتات، حيث نَحت أوَّل منحوتة عامّ 1918، وأَلَّف أكثر من ثلاثين كتاباً مِنها "ايهل الراقد، اللؤلؤة والصراع العنيد، والعاجزون في الأرض".
تميّزت منحوتات هذا المزارع القَروي بإسلوبٍ غير تقليدي، يضفي لمنحوتاتهِ الغامضة حزناً غامضاً، تنوَّعت بين الإنسان والحيوان، وبقيَ مُنعم ينحت من دون أضواء، حتى دخول الدكتور أكرم فاضل لحياتهِ ويُسلِّط عليه النور، بعد أن فوجئ بهذا الفيض الإبداعي الصادر من ذاك الرجل ذي الكوفيّة والعقال، ويذكر الدكتور أكرم: "رأيته ظهيرة إحدى الجمع عام 1960 واقفا بين البنك المركزي ومصرف الرافدين وبيده تمثال طير صغير غريب ملون، دنوت منه بلهفة وسألته عن سعر المنحوتة فأجابني بأن سعرها متروك للسائل فنقدته مئتين وخمسين فلساً، وللتعارف أعطيته بطاقتي الشخصية".
     زارَ فرات المتحف العراقي على سبيلِ الاطّلاع، وبعدها رَفع مُدير المتحف دعوة قضائية ضدّه؛ بتهمة استنساخ الأعمال، وأصدر القاضي حكم اطلاق سراحه لعدمِ ثبوت ذلك، ومُنع من الوصول إلى المتحف العراقي، وبعد ذلك احتَضنهُ الدكتور أكرم فاضل، وصُدِّرَ اسمه وتداول بين النحّاتين، ولَمع بريقه، وكتبَ عنهُ النُّقاد، مِنهُم الناقد الإيطالي ألبرتو جاتيني: "منعم فرات شيء نادر لا يُمكن العثور عليه في كل زمان ومكان، وذلك لأنه جعل أعماله الفنيّة تتكلم بلغة قديمة، بل أبعد من القدم نفسه"، وهذهِ دلالات واضحة على ما شكّله مُنعم فرات من سبقٍ فنّي وإبداعي، ونتيجة لذلك الاهتمام، شارك في المهرجان الدولي الثالث للفنون الفطريّة، المُقام في تشيكوسلوفاكيا، وحصلت أعماله على المرتبة الأولى، من بين 55
فنانا.
أما في الشأن السياسي فقد كان معارضاً، وتعرض للسجن بسبب نحتهِ تمثال رئيس الوزراء عبد المحسن السعدون، ومُنعت أعماله؛ بسبب مواقفهِ إزاء السُّلطة الحاكمة، وصودرت مجسماته، الَّتي تحتوي على رفض تامّ ومُعارضة شرسة لتلك الطبقة التي يراها ناهبة للحقوق، وتجلَّت تلك الصرامة بوجهِ الطبقة السياسيّة في قوله: "سيأتي اليوم الذي يحاسب فيه هؤلاء العملاء العبيد خدّام الاستعمار، سيأتي الرجال الذين يشجعون هذا النحت ويعرفون قدره. سيأتي اليوم الذي أكون فيه الفنان الوحيد، سأكون لا منعم، بل منعم فرات"، وأتى اليوم الموعود وتحقّقت غاية مُنعم، وأصبح ممن يُشار إليهم بالبنان، بعد انضمامه لنقابة الفنانين العراقيين عامّ 1971، وأصبح فيها عضواً عاملاً، وازاء ذلك التألق، علَّق عليه النحّات العراقي الكبير محمَّد غني حكمت قائلاً: "إنّ أعمال منعم فرات أصبحت وستصبح أمثولة لأكثر من فنان عراقي، ذلك لأن أعماله الخاصة، وأسلوبه في تصوراته برمتها لا تتصل بمدرسة فنية معيّنة، ولا تشتبك بجذور من مؤثرات خارجية، إنها خلاصة ملاحظة عاملة للمنظورات وتعبيرات مبهمة لأحاسيس وأخيلة عن الحيوان والإنسان في حبهما وفرحهما، في غضبهما ورضاهما، في أحلامهما وأمانيهما، إن شخوص منعم فرات، تتحدث عن قصص واساطير تعيش في عالم لم نصل بعد إليه، ولكم تمنيناه!"، مُنعم فرات أخترعَ نفسه بنفسه، وأراد أن يبوح بما يدور في نفسه فزَجَّهُ بتلك المنحوتات وأعطاها روحه، منحوتاته رسالة عمّا
يعتريه".
ويبدو أن الدكتور أكرم فاضل اهتم به كثيراً ويتضح ذلك من خلال مادار بينهم من حوار: "لا أصدق بأن مواهبك تقف عند طيور غريبة.. انني لست بموجهك، وإنما كل ما أريده منك أن تكون أنت نفسك. فأجابه منعم فرات: " ان رأسي يعج بالسعالي والغيلان والأفاعي والعفاريت والطناطل"، فاقترح عليه الدكتور اكرم "ان تعمل يداه وفق تعليمات رأسه"، وكان اقتراح في غايةِ الصواب.
يُذكَر أنَّ مُنعم بعد هذا التقدّم الإعلامي، تملّكتهُ نرجسيّة عاليّة حتى قال: "أنا نحّات الأرض والسماء". رحل عنّا مُنعم فرات بتاريخ 1972، إثرِ حادث سَير مؤسف، وبَقيَّت أعماله وتجربتهُ واضحة وعلامة فارقة في مسيرة النحت العراقي والعالمي.