الثقافة أداة للتحرر أكبر
ترجمة: كامل عويد العامري
"مارتن إيدن" رواية كتبها الكاتب الأمريكي جاك لندن ونشرت لأول مرة في عام 1909. تدور قصة الرواية حول شاب فقير يدعى مارتن إيدن يسعى لتحقيق النجاح والثراء من خلال الكتابة. تتناول الرواية مواضيع مثل الطموح، والفقر، والطبقات الاجتماعية، والحب
"الحياة الحقيقية، الحياة التي اُكتشفت واتضحت أخيراً، الحياة الوحيدة التي تُعاش حقاً، هي الأدب"، يقول راوي رواية "الزمن المستعاد"، وهي عبارة يمكن أن تكون بمثابة مثل يُضرب لمارتن إيدن، البحار الشاب البالغ من العمر عشرين عاما الذي تنقلب حياته رأساً على عقب يوم تقع عيناه على مكتبة عائلة مورس.
نحن في أوكلاند، في بداية القرن العشرين. بعد أن أنقذ مارتن بالصدفة آرثر مورس خلال شجار، ومارتن في الحقيقة كان مدعوا لتناول الغداء مع عائلة آرثر، حيث يقابل شخصيتين حاسمتين: الأولى، هي لقاء روث مورس، شقيقة آرثر، التي تجذبه فورًا بسحرها وثقافتها وتربيتها الحسنة. والثانية، والتي هي أكثر أهمية بكثير، هي لقاء الشاعر سوينبورن وجميع الكتب التي لم يقرأها بعد. " لقد […] رأى الكتب على الطاولة. فأشرقت في عينيه، رغبة شديدة، مثل رغبة رجل يموت جوعًا وهو يرى قطعة من الخبز."
باعتباره رجلًا مثاليًا علم نفسه بنفسه، قرر مارتن بقوة ملء نقائصه بالاعتماد على إرادته وحدها: "لقد شعر كما لو كان ثملًا، لأن هناك المغامرة التي يجب أن يخوضها، والعالم الذي يجب الفوز به". ومن أعماقه تواردت إلى ذهنه فكرة: أن يصبح جديرًا بها، وأن ينتصر على هذه الزنبقة الشاحبة التي كانت بجانبه." وفي اليوم التالي، ذهب إلى المكتبة وبدأ يلتهم أعمال الفلسفة والاقتصاد وعلم الاجتماع والشعر، من دون أن يثنيه العدد الهائل من المجلدات التي يجب قراءتها. " لقد بدت الكتب تقترب منه لتسخر منه وتسحقه"؛ كانت الرفوف العالية التي تنحني تحت المجلدات الثقيلة تذلّه وتحفزه في الوقت نفسه. يا له من عمل جيد لعقله النشيط!
مارتن يسعى حتى للكتابة والنشر. لم تثنه ردود الناشرين السلبية والعمل بلا كلل: "كان يعمل دائماً. وكل يوم، كان البريد يحمل له مخطوطات مرفوضة." فجأة، بعد أن واجه آراء أهل روث الذين يعارضون زواج ابنتهم من رجل من أصل متدنٍ، ابتسم الحظ لبطلنا الذي نشر أخيرًا أول قصة قصيرة له: "عندما ظن أن المعركة خاسرة، انتصر فيها".
توالت نجاحات مارتن الأدبية. لكن أداة انتصاره في فتح قلب روث انقلبت ضده، لم يعد مارتن يتوقف عن الكتابة فبدأ في الابتعاد عن محيط خطيبته، الذي يثير استغرابه بسطحيته ونقص فضوله، باستثناء البروفيسور كالدويل:" البيئة، والقمم التي كان يطمح الوصول إليها، والناس الذين حلم بأن يصبح نظيرهم، خاب أمله فيهم". خلال عشاء، ينفعل مارتن ويصل به الأمر إلى وصف السيد مورس بأنه "الخادم الغافل"، قبل أن يحتج على المدعوين الذين يتهمونه بأنه اشتراكي: "بالنسبة لي، أنا فرداني اعتقد أن السباق يفوز به الأسرع، وأن الحياة للأقوى". "نعم، أنا فرداني، والفردانية هي العدو الأبدي، الوراثي للاشتراكية".
"أين هم المفكرون العظماء؟" يتساءل الراوي، الذي تزداد وحدته كلما صعد السلم. يلتقي بأحدهم في شخص روس بريسيندين، وهو شاعر مغمور، عاشق للفن من أجل لفن، لم يسع قط لنشر أعماله وينصح مارتن بالقيام بالشيء نفسه. "ستطير عالياً، لكن جناحيك من شاش خفيف للغاية، ومن زغب هش للغاية. فلا تُفسدهما" يتنبأ بريسيندين، الذي ينتحر بعد ذلك بوقت قصير. على الرغم من تحذيرات صديقه، ومارتن، إيكاروس الجديد في الكتابة، يُجهد نفسه لنشر قصصه ومقالاته، يفقد حب روث ويحرق جناحيه على نحو مأساوي تحت شمس الشهرة: "فبعد أن طار بجناحيه نحو النجومية، غرق في مستنقع وبائي". إن خيبة أمل مارتن النهائية، على قدر إرادته الهائلة، هي درس مرير. وهذه الأوهام الضائعة هي في الوقت نفسه قصة صعود استثنائي.
إرادة غيرعادية
"هذا ما يجب أن أحققه: المستحيل"، يفكر بطلنا، عازمًا على الخروج من حالته كبحار أمي ليغزو روث. منذ الفصول الأولى للرواية، يُظهر مارتن إيدن قوة شخصية استثنائية. يبدو أنه وريث كلًا من قوة هرقل الأسطورية ومواهب بروتوس، القادر على التحول حسب رغبته. مثل هذين البطلين، يواجه مارتن مهمة جبارة: استيعاب قدر هائل من المعرفة في غضون أشهر قليلة مع تطوير مهاراته ككاتب، من دون أي معلم. تقارنه روث بـ "عملاق مقيد يكافح لكسر قيوده"، كما لو كانت تشعر بكل عظمة الروح التي تتودد إليها.
تزداد شجاعة مارتن كلما ازدادت قلة العوامل المشجعة على الدراسة في حياته اليومية: يصف جاك لندن ظروف حياته الصعبة في نزل البقالة هيغينبوتام، الذي يديره شقيقه برنارد هيغينبوتام، الذي يُرهق أخت مارتن بالعمل ليل نهار. في غرفته البائسة، تتراكم على مارتن المحاضرات والديون المتراكمة ، فيضطر أحيانًا إلى رهن معطفه تارة، ودراجته في محل الرهن تارة أخرى، لكنه لا يستسلم أبدًا، مدفوعًا بقوة حديدية: "لم يكن هناك شيء لا يستطيع التغلب عليه عندما كان يريد ذلك.
تُثير إرادة مارتن الفائقة للطبيعة انطباعًا قويًا أحيانًا على من حوله: "لم ترَ قط عيونًا تعبر عن قوة عظيمة كهذه. مع القوة التي يعبر عنها هذا الوجه، يمكن لهذا الرجل أن يحقق أي شيء"، كما تقول روث. ترتبط قوة شخصية مارتن بشكل من أشكال القسوة؛ فتعلمه مرتبط باستمرار القتال، وهو قتال اختاره أدبيًا. "كان يعرف كيف يعمل، وستسقط أقوى القلاع أمامه". "سيكتب عملاً عظيمًا وسيصبح اسمه مشهورًا". هنا أيضًا، تبدو إرادة راستينياك الأمريكي (في رواية "الأب غوريو" للكاتب الفرنسي أونوريه دي بالزاك.) الذي لا يقهر تفتح له طريقًا محددًا. "كان الأدباء هم فاتحو العالم". "ما أغبى أن تكون بحارًا بينما يمكنك أن تكون أديبًا!".
لا يخلو مصير مارتن إيدن من بعض التشابه مع مصير خالقه: ولد جاك لندن في سان فرانسيسكو عام 1876، وانتقل إلى أوكلاند في طفولته، مثل مارتن. ومثل مارتن، عمل بحارًا في شبابه (التحق بـالسفينة "صوفيا ساذرلاند" كصبي بحار لصيد الفقمات في سن السابعة عشرة) وكما هو الحال مع مارتن، طور حبًا مفرطًا للكتب والحرية في سن مبكرة. على عكس الكاتب، يدافع مارتن بحماس عن النزعة الفردية ذات النغمة النيتشوية: "هنا، على هذه الطاولة، أنا الفردي الوحيد. بالنسبة لي، الدولة ليست شيئًا. أنا أنتظر الرجل القوي، الفارس الشجاع الذي سيأتي لانقاذ الدولة من هذا العدم الموحل. لقد كان نيتشه على حق". لكن يا للأسف، سرعان ما يدفع مارتن ثمن طموحه الجامح. " كان مارتن يعلو دائمًا من قمة إلى قمة." وهو الذي يعتبر نفسه الآن "نيتشويًا بائسًا" ييأس من إيجاد علاج للوحدة التي تثقل كاهله، كلما ارتقى السلم الاجتماعي.
مثل لورينزاكيو(شخصية مسرحية كتبها ألفريد دي موسيه، وهو شاب نبيل يتحول إلى قاتل بسبب نفاق المجتمع.) يرى مارتن إيدن أن الشخصية التي يرتديها في المجتمع، لا تعكس شخصيته الحقيقية. عندما يبحر على متن "ماريبوسا" متجهًا إلى البحار الجنوبية، لم يعد يجد البحار السابق، الذي أصبح مشهورًا الآن، مكانًا له بين الركاب أو بين أفراد الطاقم: "لم يتمكن من إيجاد أي رابط صداقة بينه وبين هؤلاء الوحوش ذوي الوجوه الغبية وأدمغة المجترات […]. في الطابق العلوي، لم يكن أحد يهتم بمارتن إيدن لذاته، بينما في الطابق السفلي لم يعد قادرًا على تحمل أولئك الذين قبلوه في السابق".
كانت إرادة مارتن القوية تُسانده حتى في الموت. ومع حلول الظلام، ألقى الكاتب بنفسه من فوق الجسر في البحر الأسود واستحضر إرادته الخارقة للمرة الأخيرة لينتصر على غريزته في البقاء: "حسنًا! لقد كانت لديه قوة الإرادة، قوة الإرادة الكافية لإنهاء كل شيء وبجهد أخير، يختفي من الوجود." كيف يمكن لصاحب الإرادة المطلقة في الحياة أن يفقد طعم الوجود بهذا الشكل؟ ربما لأنه، مدفوعًا بالطموح الاجتماعي الأعمى، لم يتمكن من التأمل على نحو دائم في الكنوز التي كانت تتيح له سعة اطلاعه من الوصول إليها.
باسم الثقافة
تحتفي رواية (مارتن إيدن) بقوة الثقافة كأداة للتحرر، بقدر ما تحتفي بالإرادة في ذلك. فالثقافة، تلك الأداة الهائلة للعقل النقدي وروح النقد والروح الديمقراطية، تبدو حتى اليوم في كثير من الأحيان في موقع مهمش في أولويات قادتنا.
لم يّعد يُنظر للثقافة على نحو كافٍ كدعوة للتحرر والجمال- كوسيلة لتحرير الفرد وتحسين حياته- ولم يعد يُنظر إليها على أنها واحدة من أفضل منطلقات الانطلاق نحو استقلالية وحرية للفرد. ومع ذلك، هذا ما هي عليه، وما نناضل من أجله، على حد تعبير تشرشل. يستشعر مارتن إيدن أن الطموح لا قيمة له في حد ذاته، ولا يكفي لتحقيق النجاح والسعادة. عندما تشيد روث بالمسار المهني لتشارلز بتلر، هذا الشاب اليتيم الذي استطاع أن يصنع لنفسه اسمًا في مجال الطباعة قبل أن يصبح صديقًا لعائلة مورس، يهزّ بطلنا كتفيه: "حياة كهذه هي مثال جيد لنا جميعًا. إنه يبين لنا أنه بقوة الإرادة يمكن لأي إنسان أن يرتقي فوق محيطه"، كما تعتقد روث. أما مارتن المتشكك فيجد صعوبة في الإعجاب بإنسان لم يجعل للفن والجمال مكاناً في حياته: "كان الأدباء هم فاتحو العالم، وكان يجدهم أكثر إثارة للإعجاب من كل آل بتلر."
فضلا عن ذلك، فإنّ عدم فهم روث لمثاليته، إي عدم قدرتها على فهم إيمان مارتن القوي بضرورة كتابة الحقيقة، حتى لو كانت قاسية أو غير سارة. هو ما دفع مارتن إلى الابتعاد عن خطيبته. لا تزال الشابة متشككة في أحلامه ككاتب ولا تفهم الحاجة إلى الحقيقة التي تُحرّكه. اختار لنفسه أسلوبًا، صدى حقيقي لأسلوب جاك لندن: "حبّه الأساسي للحقيقة دفعه إلى وصف الأشياء التي رآها". " إن طبيعتي مغرمة بالواقعية، والروح البرجوازية تكره الواقعية جبناً، وخوفاً من الحياة. لقد فعلت كل شيء لتجعلني أخشى من مواجهة التحديات والصعوبات في الحياة"، هكذا غضب البطل خلال لقائهما الأخير.
على غرار كبار المستكشفين الأمريكيين والروائيين الذين يمجّدونهم في كتاباتهم- من جيمس فينيمور كوبر إلى جيم هاريسون - يرفض مارتن إيدن الامتثال للطبقة البرجوازية مفضلاً عليها الأرض المجهولة للأدب - المجال الجديد الذي لم يستكشف بعد - تلك القمم التي لا يمكن الوصول إليها إلا على حساب حياته.
إن بطل الرواية مارتن إيدن يشبه مؤلفه جاك لندن في العديد من الجوانب، بما في ذلك شغفهما بالكتابة ورفضهما للطبقة البرجوازية. كان جاك لندن معجبًا كبيرًا بأعمال الكاتب الإنجليزي جوزيف كونراد، وكان تأثره بأسلوبه واضحًا في كتاباته، وقد اختار لنفسه طموحًا أدبيًا يتمثل في وصف العالم كما هو، بكل ما فيه من جمال وقبح على غرار الروائي الإنجليزي الذي كتب في مقدمة لروايته "زنجي النرجس": "المهمة التي أسعى إلى إنجازها هي، من خلال قوة الكلمات المكتوبة فقط، أن أجعلك تسمع، وتشعر، وقبل كل شيء أن ترى. هذا ولا شيء غيره، لكنه هائل!". مهمة هائلة بحجم مهمة حماية حبنا للثقافة، التي يهددها بشكل خفي الأنبياء الكذبة في عصرنا، والتي يجب أن نضاعف قوتنا ضدها، استحضارا لقوة مارتن إيدن.
أخبار اليوم
كتلة الاتحاد الوطني الكردستاني تشيد بالتحول الإيجابي الذي تشهده شبكة الإعلام
2024/11/25 الثانية والثالثة