وارد بدر السالم
(1) التوازن فكرة علميَّة كونيّة تقوم على الدقة والضبط في أعلى مراحل الخيال العلميّ الفائق. وهذه الدقة الاستثنائيّة هي التي تخلق المعادلات الفيزيائية في نظريات لا تنتهي مع تطورات علم ما بعد الحداثة. وبما أن الحياة هي جزء من الكون الكبير، فلابد أنها تخضع إلى هذه المعيارية الدقيقة القائمة أساساً على تجاذبات مغناطيسية. ولأن الطبيعة بشكلها العام محكومة بهذه القوانين السماوية بتوازنها المغناطيسي العجيب، لذلك نجد الحياة على الأرض ممتثلة إلى هذه النظرية الثابتة في أن الكون كله خاضع إلى خالق أكثر جمالاً وإبداعاً من أي خالق ومبدع. وما دام الخلق بهذه الصيغة الدقيقة، فأنّ البشرية في مجمل تجلياتها الزمنية الطويلة حاولت وتحاول أن تجد لها منفذاً لخلق ما يعينها على أن تكون متطورة ومبدعة، لتؤسس لحضاراتها المتعاقبة منهجية قائمة على الابتكار العقلي، بدءاً من الأساطير والملاحم والخرافات والحكايات والتدوينات وغيرها من وسائل الإيصال التاريخي، تكون متوازنة مع معطيات الكون الأبدي، ولا توازيها في الدقة قطعاً، لكنها محاولة إلى إنشاء جسور تتناغم مع معطيات أدبية وثقافية وعلمية وجمالية ومعرفية. ولا ضير بأن نعتقد أن الإنسان في كل مرحلة زمنية عاشها حاول أن يكوّن له رصيداً من المنجزات، حتى ما قبل الثورتين المتعاقبتين الزراعية والصناعية اللتين خلقتا حضارات علمية وفنية وأدبية بقيت حتى اليوم مرجعاً للدارسين والباحثين.
(2) ليس بوسعنا أن نعدّ التوازن الأدبي كوناً يقابل التوازن الكوني الدقيق، فهو إنتاج عابر متغير مع المعطيات التالية، لكنه بالضرورة كونٌ واسع المساحة الزمنية والتاريخية والجغرافية. وما دامت المجرات والكواكب والأجرام في السماء تتجاذب بتناسق دقيق، فنرى أن على عناصر الكون الأدبي أن تلتزم بمثل هذا التناسق المغناطيسي، أسلوباً وبنيةً ووصفاً وحواراتٍ وتقنية عالية المستوى. فالعناصر الأدبية لا تكون منفردة ما لم تؤد أدوارها المغناطيسية على نحوٍ صحيح. والشخصيات الأدبية ما دامت خلقاً وإبداعاً فأنها معنية أن تكون ضمن حلقات التوازن الأدبي الإبداعي في هيكليتها الشخصية التي ترتبط بخلق إبداعي فيه الكثير من الخيال، حتى وإن كانت واقعية تماماً. فالخلق الخيالي مساهم في إبراز الدقة الواقعية أمام القارئ المجرد من عوامل الخلق والإبداع. وبالتالي فأن التوازن الكوني يتصاغر إلى توازن لخلق بشري كتابي وصوري وخيالي، بوجود العناصر الجاذبية المتاحة للكتابة والتخييل والرمز أيضاً، للمُجاراة النسبية للقوة التوازنية الكبرى في الكون المغناطيسي. وعليه نجد أن الاختلالات الأدبية في العملية الإبداعية فقدت ما يجعلها متوازنة، أي فقدت عنصراً أو أكثر من عناصر الجذب. فالسرديات الروائية على سبيل المثال لا تتجانس ما لم تتجانس مكوناتها السردية وعناصرها الساندة من شخصيات ومحاور وتقنيات لازمة في بنيتها العامة. والتجانس الأدبي مغناطيسي مثل الكون المنجذب لبعضه آلياً، فالكون الأدبي يتسع مثل الكون السماوي. له اتساعات لا متناهية، يتوجب السيطرة على اختلالاته، وردم فراغاته المتسببة بضعف هيكليته بالمغنطة الإجبارية، بمعنى تحريك محاوره وتغيير مواقعها عندما يتوجب الأمر هذا، وانشاء صِلات متماثلة معها، لها قوة الأخذ والعطاء، بتحريك السالب والموجب منها على طرفي المعادلة الأدبية.
(3) مثال مناسب من الواقع اليومي يحدد لمحة من الفهم العام للتوازن. إذ يمكن أن نرى في يومٍ شتائي ممطر حادثاً مرورياً يتسبب به سائق مُسرع على شارع عام، مما يؤدي إلى تزحلق سيارته ودورانها على نفسها لعدم السيطرة عليها؛ إذ فقدت "التوازن" وانحرفت بشكل دائري أو كيفي، وقد تُسبب حادثة غير محمودة العواقب. وهذا البيان لسائق متهور غير منتبه إلى معطيات الشارع الممطر. فقد يكون مخموراً أو بليداً لا يقدر أن السرعة غير مطلوبة في جو ممطر، وعلى الأرجح أن يكون قد فقد التوازن، حينما خذلته إطارات سيارته وهي تفقد جاذبيتها مع الشارع المبلل. أي فقدت الاحتكاك بسبب البلل.
كذلك قائد النص الأدبي، عندما يفقد إطارات نصه في جو صممه على أساس الوعي الإبداعي من دون أن ينتبه إلى متغيرات الأجواء والطقس الخاص بنصه. فيتهور مسرعاً أو مخموراً، فاقداً الكثير من العلامات الدالّة إلى السبيل المستريح للنص. وأهم علامة هي المغناطيسية التي تربط أجزاء النص وعناصره الكثيرة (قد أعني الرواية بشكل دقيق) والدعوة إلى تكوين عوالم خلاقة تناسب النصوص ومرجعياتها الواقعية، بإرساء هوية نصية جديدة لا تتقلد ما مضى من الكتابة، بل تسهم في عالم كوني أكثر ديمومة وبقاءً وثراء. لذا نجد أن التوازن الكوني كمثال أكبر في تعاطي فكرة التوازن الأدبي والإبداعي الضروري لإرساء قيمة داخلية وخارجية للنصوص الأدبية. فالكون الأدبي مُجزّأ إلى وحدات بنيوية غير منفصلة عن بعضها، مثل الكون العلمي الدقيق الذي يحث بعضه إلى بعض إلى التماسك عبر الجذب المغناطيسي، وفي النص يقابله الأسلوب الأدبي والعمق فيه في ذبذباته اللاقطة لكل ما هو إيجابي فاعل، والشكل المستحدث في مضارعته للأشكال القديمة وتجاذب أطرافه ومكوناته وعناصره الصغيرة والكبيرة. وهذا ما يمكن أن نسميه بالخلق الإبداعي، عندما يتوازن بشكل معقول، ويعطي درساً في الخيال الأدبي القائم أساساً على مجاراة الواقع والسمو به إلى أفق أكثر صلةً بالخلق الإبداعي.