أنيس الرّافعي *
على غرارِ جميع الناس، في كافة أرجاء البلاد، ومن مختلفِ السلالات والأنواع والأنساب والطبقات، الذين تلقّوا دعوات إلزاميّة من متحف السيمُولاكر الوطنيّ؛ قمتُ، بدوري، قبل عدّة شهور، باختيار إحدى صُوري الشخصيّة الأثير ، ثمّ بعثتُها، عبر البريد المضمون، إلى مكتب المحافظة العامّة .
وهو المكتبُ ذاتهُ، المشرفُ، من الألف إلى الياء، على هاته العمليّة واسعة النطاق، الطريفة من نوعها، التي كانَ من المُفترض أن تمنحَ للمشتركين" فرصةَ التعرُّف على سلسلةِ محاكاة مصطنعة و زائفة لصور وجوههم الحقيقيّة، على أساسِ اختلاقِ نُسخ جيّدة منها وغير متشابهة، لغايات جماليّة محضة، تتمثّلُ في تنميق الملامح وتحسين المظهر، تبعاً لصيرورةٍ من الاستيهامات العائدة والتكرارات المتصاديّة، القادرةِ على جعل الخسيس جليلاً، والتافة نبيلاً "، مثلما وَرَدَ بين سطور الرسالة التوضيحيّة المُصاحبة للدعواتِ الرسميّة .
لا أُخفيكم بأنّني نسيتُ، تقريبا، أمر هاته المبادرة، و لم أعد أتتبّعُ أخبارها إلاّ لماما، أو عَرَضًا، بواسطة ما يَرِدُ إليَّ عبر القصاصات الصّحفيّة، أو لَوَامِعِ الشبكة العنكبوتيّة؛ إلى أن حلَّ يومٌ سمعتُ فيه عن افتتاح المتحف، وما أثارهُ من لغطٍ و حيرةٍ عقب اختفاء أفواجِ مُرتاديهِ الأوائلِ بطريقةٍ غامضة، فدفعني الفضول، ووطّدتُ العزم على إنجازِ زيارةٍ لَهُ.
وبالفعل، ركبتُ القطار إلى العاصمة الإداريّة الرباط، ثمّ استقليتُ سيّارة أجرة، أنزلتني على مسافة غير هيّنة من مقصدي، بسبب الطوق الأمنيّ المُشدَّد، الذي كان مضروبا حول المكان .
وصلتُ إلى بوّابة المتحف، وبعد أن أدليتُ ببطاقتي التعريفيّة لِمُوَظَفَيْ شركة الحراسة المُلتحيينِ الصَارمين، سُمِحَ لِي بالدخول.
وَجَدْتُنِي أتعقّبُ، كالمُسرنمِ تماماً، أرنباً آليّا أبيضَ، ناطقاً بلغات شتّى، شبيهاً بأرنب "أليس في بلاد العجائب"، قادني مستعينا بجهاز تتبّعٍ مغناطيسيّ داخل كهفٍ رحيبٍ شبه مظلم، تحفُّ أركانه زهور حيّة تصدحُ، بنبرات عذبة، موسيقى العيطة والملحون والمطروز، وتضيءُ جانبيه أضواء كاشفة، كانت مُسلَّطة على آلاف الوجوه الشخصيّة المُقَنَّعَةِ على هيئة بهلوانات بشعة، مثيرة للسخريّة .
تلكَ البهلواناتُ لانهائيّة العدد، التي كانت تحمل أرقاماً ترتيبيّة، وشاخصةً بأبصارها إلى الأمام، في جمود تامٍّ، و مُكبّلةً بالسلاسل من أعناقها وأقدامها الافتراضيّة، التي تبيّنَ لِي بأنّها، في الواقع، مُجسَّمات هلاميّة يُولِّدُها اللاّيزر من ألوانٍ ثُلاثيّة الأبعادِ .
أدركتُ سريعا أنّني عالقٌ داخل تقليد متطوِّر لكهف أفلاطون الأسطوريّ، إذ كُلّما توغّلتُ إلى الغَوْرِ تراءت لي، على نحو جهنميّ، الظلالُ المشوَّهةُ والمرعبةُ لهيئات البهلوانات، التي كانت ترسمُها الأضواءُ الكاشفةُ على الجدران.
لحظتها، قلتُ مع نفسي، فيما يشبهُ المناجاة الجوانيّة : “آحْ، كمْ نحنُ شنيعونَ، شيمتُنا الدمَامةُ الباطنيّة، حينما نُبدِّلُ جوهرنا الأصليّ، صافيَّ السريرة، إلى بهلواناتٍ مُستحوذة، تستأثرُ بمصائرنا، فتُعيرنا أقنعتها المنحطَّة، ثمّ تُطلٌّ بشعوذاتها من دَخيلة أرواحنا الممسوخةِ إلى تاريخٍ ذاتيٍّ للقُبْحِ “.
واصلتُ تعقّبي الحثيث للأرنب الأبيض، المتلفّظ بألسنة مبلبلة، وهو يبحثُ عن رقم صورتي الخاصّة، وعلى ما يبدو، لمَّا اقتربنا من مكان تواجد أيقونتي الأصليّة، طفقت تتجلَّى لي، بلا هوادةٍ على الجدران، أشرطةٌ بالأبيض والأسود لذكرياتِ حياتي من الطفولة إلى الآن.. نعم، من فَتَاءِ العُمر إلى هاته البرهة تحديدا، حيث كنتُ أتابعُ، في هذه الأثناء بالضبط، انثيالَ حياتي بأجمعها واندلاقَها عليَّ، مثلَ مَنْ أفرغَ على نَظَرِي عُلبةً ضخمةً من التصاوير، دفعةً واحدة .
بل أكثرَ من هذا، تلاحقتْ أمام رُؤيتي أشرطة بنفس اللّونين الأبيض والأسود، تتذكَّرُ ماضيًا لم يحدُث بعد، وهُوَ على الأرجح مقتطعٌ من معيشي القادم ومُستقبل أيامي .
التبسَ عليَّ الأمرُ حدّ الارتباك، ثمّ طفقت تُساورني شكوكٌ قويّة بأنّ الواقع الرؤيويّ، الذي جئتُ على التوغُّل داخلهُ، ليس حقيقيّا بالمرّة، بل، بالأحرى، هو واقعٌ أعادت صياغته آلةٌ حاذقة لإنتاج الوهم والخداع المَحبُوكينِ.
أوصلني الأرنبُ الآليُّ الصائت إلى مستقرِّ سيمولاكر وجهي داخل المتحف، حيث شاهدتُ بهلوانيتي على صَوَابِهَا المُطْلَقِ .فكان البهلوانُ القميء الذي يسكنُ بقرارتي يُبادلني النَّظرات، كما لو أنّهُ يُخبرني بأنّني مجرّدُ حُلُمٍ فاسدٍ من أحلامه، التي تمَّ فَرْضُها عُنوةً على الوجود ..كما لو أنّهُ يُعلمني بأنّني مجرّد بهلوان، حلم على نحوٍ خاطئ، بأنّهُ وجهُ إنسانٍ، ومَاهُوَ بوجهِ إنسانٍ.. كما لو أنّهُ يُنبئني بأنّنا قاطبةً مجرّد بهَالينَ تحلمُ ببعضها البعض داخل كَوْنٍ بَاطِلٍ.
استأنفتُ تقدُّمي إلى الأمام داخل الكهف المدلهمّ، الضاجّ، الآنَ، بموسيقى أضحت ناشزةَ الايقاعات كأصوات شجار القطط، حتّى أدركتُ منطقة بينيّة بين كهوف أخرى متشعِّبة الغِيرَانِ، كأنّها برزخٌ فاصلٌ بين عالم الموت ويومِ القيامة، فألفيتني قُدام يافطة دُوّنت عليها عبارة "المَخْزَنُ الكونيّ للوجوه"، حيث كان ثمّة فنّان بورتريهات شفّاف الجسد، سَمْحُ المُحيّا، مثل حكيم هنديّ متيّقظِ البصيرة، يجلسُ إلى طاولة صغيرة، اصطفّفنا قدامها جميعنا على شكل طابور أفعوانيّ أو محيط مُتماوجٍ من الخلقِ.
كان الفنّانُ يتطلّعُ بإمعان إلى كلّ واحد منا، كما لو كان قطعةً نادرةً من البُورسولين، ثمّ يسمحُ لهُ بالدخول، أو يدعوهُ إلى العودةِ على أعقابه .
الداخلون، وأنَا كنتُ واحداً من بينهم؛ فئةٌ منهم كانت تتجوّلُ بين أرجاء المخزن، فينزعونَ وجوههم القديمة بمفكّات البراغي أو الملاقط، ثمّ يرتدونَ وجوهاً مستعملة، علتها طبقات سميكة من الصدأ.
أمّا الفئةُ الأخرى، ممن لم يجدوا وجوهاً مناسبة لأرواحهم، وأنَا كنتُ واحداً من زُمرتهم؛ كُنَا ننتظرُ داخل قاعات بحجم ملاعب ضخمة لكرة القدم، ذات أشكال هندسيّة كالماندالا أو كساعات كونيّة هائلة بلا عقارب، نترقّبُ أن ينتهيّ الفنّان من شغله المضني، كي يتفرّغَ ليرسمَ لنا وجوهاً جديدة .
يشاعُ بأنّنا، منذ ذاك الحين، بقينا بوجوهٍ فارغة، حَزَانَى حُزْناً شَديداً إلى درجة الجزع؛ سجناء داخل خواء الأبديّة، لأنّ فنّان البورتريهات العظيم كان مُتعبا بلا انقطاع من عمليات الفرز، كما اتّخذَ قراراً حاسما أنْ لا فائدة من رسمِ المزيد من الوُجوه، التي لا جَدوى منها، ولامَعنى لها.. أنْ لا فائدة من رسمِ المزيد من الوُجوه، التي لا يلزمُ أن تلتقي، إطلاقاً، بأرواحها السابقة، حتّى لا يظلَّ العالمُ الآخرُ المؤقّتُ أسيراً داخل مرايا القدم والتكرار!
* كاتب وقاص من المغرب