ما لا يكون اثنين

ثقافة 2024/04/03
...

أحمد عبد الحسين

حاجةُ المرءِ إلى الوهمِ أشدُّ من حاجته إلى الحقيقة.

هل أبدو لكَ متناقضاً؟ أنا متناقض فعلاً وأنتَ لستَ أقلَّ تناقضاً مني. كلّ إنسانٍ هو اثنانِ وربما أكثر. هل تذكر صرخة فاوست: “إلهي.. روحان يتصارعان في صدري”؟ أليست تراجيديا فاوست هي هذه المداولات الأبدية مع الشيطان التي هي مداولاتنا اليومية مع التفاهة والذلّ والكذب وشتى صنوف الخديعة والمكر وكلّ ما يهدّد سلطاننا على ذواتنا؟
ولا أحد.. لا أحد سينتصر في معركة كهذه. شيطانُ فاوست لم يربح تماماً ليعلن انتصاره، والإلهُ لم يطمئنّ بعدُ إلى فوزه لتهدأ العوالمُ وتخلدُ إلى نفسها. يا أخي هذه حربٌ أهلية بين المرء ونفسه. ومن أولى علائم الحرب الأهلية أنَّ كلّ طرف فيها ليس قوياً كفاية ليسحق خصمه وليس ضعيفاً تماماً ليستسلم.

هذا الذي يجري في داخلك حرب أهليةٌ وعليك أن تديرها كجنرال.

ولم لا تتناقض؟ لِمَ تريد أن تكون واحداً ما دام كلّ شيء مصمّماً لخلق هذا الازدواج وما دامت المانوية في أصل جبلّة الإنسان وصميم خلقته؟ ما الضيرُ في أن تكون اثنينِ بدلاً من واحد؟
أما أنا فاعتقادي أنّ كلّ مَنْ لا يقدرُ أن يكون اثنينِ فهو أقلُّ بكثيرٍ من واحد.
أما هؤلاء المتعَبون، الذين ينوؤن بالأحمال، رافعو أثقال العالم على أكتافهم، عتّالو الوجودـ وأنت منهم يا صديقيـ يتنفسون الهواءَ وفي بالهم أنَّ كدحهم وكفاحهم وجهدهم سينتهي حين يتطابقون أخيراً مع أنفسهم أو يتطابق العالمُ مع ما يريدون له من نشأةٍ. هذه مأساتهم التي لن تنقضي، لأنهم كلما مرّ وقتٌ عرفوا أنَّ العالم يتقلّب في صورٍ لم نلتقطها بكاميراتنا الخاصة، وأنّ كلّ شيء من الجينوم إلى الثقب الأسود يعلن أنَّ هناك قنطرةً مردومة بين الإنسان ونفسه، وأنَّ كلّ فرح وسعادة وحبور ومثلها كلّ وألم وضنك وندم إنما تجرجرنا حثيثاً إلى حتفنا لا إلى أنفسنا.

وحين يعرفون ذلك وتستيقنه أنفسهم، تفغر الهاوية فمها في وجوههم، ويرون العالم على حقيقته، حيث لا حقَّ لشيء بأن يُسمع أو يُرى أو يُقال إلا إذا كان مغسولاً بالتفاهة إلى أعمق نقطة في قلبه.

حينذاك، وحينذاك فقط تؤاتيهم رغبة في ترك العالم يواجه مصيره دونهم، يقررون الانسحاب من الوجود اقتصاصاً من الوجود.

وأنا وأنت نعرف أنّ أسوأُ المنتحرين هم أولئك الذين يريدون لانتحارهم أن يكون انتقاماً من العالم.