كيف يبني الكتّاب العراقيون شخصياتهم الروائيَّة؟

ثقافة 2024/04/03
...

صفاء ذياب

تعيش الشخصيات الروائية حيوات عدّة، بين صياغة الروائي، وطريقة تقديمها، وإعادة إنتاج صفاتها وبنيتها، وبين القارئ الذي يتخيّل كيف تبدو عليه هذه الشخصيات. وهنا يقسّم النقّاد الشخصيات الروائية إلى عدّة أقسام؛ فبعيداً عن التقسيمات السردية التي تذهب إلى شخصيات رئيسة وثانوية وخيطية، وغيرها من التقسيمات، يذهب نقّاد آخرون إلى البحث في مرجعية هذه الشخصيات، وعلاقتها بشخصيات واقعية، لها مرجعيات في التاريخ أو في البيئة المحلّية وغير المحلّية.

لكننا ندخل هنا في تساؤل أهم: هل يمكن أن نسمي أية رواية يستلهم مؤلّفها بطلاً له مرجعية واقعية رواية تاريخية؟ وربّما نعود هنا إلى جورج لوكاش الذي قول (إنَّ ما يهم في الرواية التاريخية ليس إعادة سرد الأحداث التاريخية الكبيرة، بل الإيقاظ الشعري للناس الذين برزوا في تلك الأحداث وما يهم هو أن نعيش مرّة أخرى الدوافع الاجتماعية والإنسانية التي أدّت بهم إلى أن يفكروا ويشعروا ويتصرفوا).. غير أنَّ هذا يدخلنا في مجاهيل أخرى حسب لوكاش، وهو أنَّنا نطلق على أيّة رواية تستلهم حدثاً أو شخصية مرجعية، رواية تاريخية. وربّما يفسّر الدكتور محمد في فاضل المشلب قول لوكاش بأنّه “البحث عن رمزيَّة ما في شخصيات التاريخ الكبرى؛ بهدفِ تمرير رسائلَ عدَّة إلى القرَّاء تتضمَّنُ وعضاً وسلوكياتٍ معيَّنة يريدُ الروائي إيقاظها في الناس، وهذا بخلاف ما نبحث في غمار موضوع الكتاب، فليس المبتغى البحث في الرواية التاريخيَّة صنفاً سردياً، إنَّما البحث في تلك المنطقة الزمكانية في تاريخ ما الَّتي يتقصَّد الروائي الذهاب إليها والتقاط ما يثير اهتمامه وإعادة كتابتها (تخييلها) خالقاً منها عالماً قد يكونُ موازياً وقد يكون آخرَ”.
إلَّا أنّنا أيضاً نقف عند عتبة أخرى يعدّها الكثير من النقاد نقطة ضعف في الرواية العراقية، وهي أنَّ أغلب الروايات الصادرة منذ عقود طويلة هي عبارة عن سير ذاتية للروائيين أنفسهم أو لشخصيات قريبة منهم، عاشروهم وعايشوا الأحداث التي مرّوا بها، وبهذا فهؤلاء غير قادرين على إنتاج أحداث متخيّلة وبناء شخصيات بعيدة عن بيئتهم الخاصة.
وعلى الرغم من هذا التفاوت في الآراء، إلَّا أننا يمكن أن نطرح تساؤلاً مختلفاً، وهو: ما الذي يدفع الروائيين لاستلهام شخصيات واقعية في رواياتهم، على الرغم من أنَّ عمل الروائي إنتاج شخصيات متخيلة؟
 التلصّص على التاريخ
يعتقد الروائي وحيد غانم أنَّ وضع شخصيات “حقيقية” في العمل الروائي يرتبط بضرورات تاريخية تفرضها طبيعة العمل والفترة الزمنية التي يتناولها. مع أنَّ ذلك يدعو للحذر، فليس هدف الروائي نسخ شخصية وجدت في حقبة معيّنة فحسب، ولا أن تكون ضمن رمزية لآنية مربكة، بل إيجاد مبرّرات فنّية لسحبها من تاريخها ومنحها مساحة متخيّلة. إنَّ شحة ما نلمسه من مصادر حول شخصية حقيقية أو تاريخية قد يتيح للروائي إذابتها في لحمة العمل المتخيّل بصورة أسهل، فهي لا تمتلك الصلابة الوجودية فعلاً، أي أنها تغدو جزءاً من شعرية الرواية.
ويضيف غانم: بالطبع، كلَّما أمعن الزمن في البعد تصاعد ضباب مشوّش، وهو أفضل إطار لأيِّ مؤلف يجد في حقبة ما أو شخصية ما مادة يمكن تنشيطها عبر الخيال وإعادة تجسيدها درامياً، فليس هدف الروائي نقل الحقيقة بقدر تصوّره عنها أو أحياناً تلافيها وتزييفها طالما أنَّ موضعة أيّ شيء روائياً يعني تخيّله. لا يمكن اختزال الدوافع، لكن قد تفي الإشارة إلى واعزٍ مبهم لدى كلِّ روائي بالتلصّص على التاريخ من خلال شخصيات حقيقية.
نحن نتساءل هل قدّمت لنا كتب المؤرّخين تلك الشخصيات التي نعتقد أنَّنا نعرفها جيّداً بحقيقتها البحتة بعيداً عن ميول المؤلفين وانحيازهم ومساحة تخيّلهم وأكاذيبهم؟ أحياناً يدفع الغموض حتَّى في أثناء حياة الشخصيات الحقيقية ووجودها إلى أسطرتها. وإذا افترضنا أنَّ أغلب الشخصيات المتخيّلة في الأعمال الأدبية لها جذور واقعية فما المانع من قلب الأدوار أحياناً؟
إحياء الوقائع
ويفترض الروائي ضياء الخالدي أنَّ السؤال يتعلّق بالشخصيات الواقعية المشهورة. أيّ تلك التي تركت أثراً في الفكر والتأريخ وغير ذلك. وبرأيه، يأتي اختيار الشخصية بسبب حضورها الكبير في شخصية الروائي سلباً أو إيجاباً، وقدرتها على تحفيز الأسئلة لديه. هناك صلة معرفية تتيح القيام بحوار في مجال الأفكار، وعبر جنس الرواية. الكثير من شخصيات المتصوّفة مثلاً، يستلهمها الروائي لأنَّها نطقت أو اقتربت من العوالم الداخلية لديه، وواجهت العالم الخارجي سواء بالكلمة أو الفعل. الروائي يريد أن يُكمل ويملأ ما يراه ناقصاً في السيرة الأصل، ووفق رؤية حديثة تديم الصلة ما بين الماضي والحاضر.
وأحياناً، يتمُّ إعادة الاعتبار لشخصية تأريخية أو علمية كانت لها أفكار ثورية في زمانها، وأسقطتها سلطة السياسة والمجتمع من حسابات التأثير وقتذاك. فنحن اليوم، سواء كنَّا روائيين أم قرّاء نثمّن قيمة الأفكار والأسئلة التي سبقت زمانها، ودُوّنت في كتابات المخالفين لها باعتبارها شاذة. الروائي لديه قول جديد في ذلك.
ولا ننسى، أنَّ الشخصية الواقعية المستلهمة تزوّد الرواية بدعاية أولية للقراءة، لأنَّها معروفة. ما ينتج حافزاً للاطلاع على الإضافة المفترضة التي أنجزها الروائي، وأيّ الأفكار والأحداث التي تمَّ إلقاء الضوء عليها أو التي تُركت؟ ولماذا؟ هناك رؤيتان في النهاية، أو منظوران، أحدهما مكتمل في عرف الماضي، والآخر حديث يتشكّل بالحوار ووفق مسارات الجنس الروائي. وبالطبع، يكون العمل الروائي ناجحاً كلّما امتلك الكاتب الإحاطة الشاملة بظروف العصر الذي عاشت فيه الشخصية الواقعية. الظرف السياسي والديني والاجتماعي وغيرها.
تمرير الرؤى
ويرى الروائي الدكتور ميثم هاشم طاهر أنَّ للمؤلف، نظراً للطبيعة الاستعابية للروايّة، أن يستدعي شخصيات واقعيّة، ويستمدّها من عالمه المرجعيّ ليعيد إنتاجها في التخييل؛ لأسباب متعدّدة، لعلَّ أهمّها: بناء محكيّه الروائيّ على توليف قصص واقعيّة تفاعل معها المؤلف، بوصفها جزءاً من محيطه، فبعض الشخصيات تكمن في ذات المؤلف مثل أطياف حبيسة تتوق إلى أن تستظهرها رواية، حتَّى ولو كانت في محكيّ خوارقيّ. كما قد يستقي المؤلّف من “ذاته” عينها؛ لا لشحٍّ في خياله، إنّما لحاجته إلى تمرير رؤاه، من خلال ما يسمّيها (الشخصيّة الطرازيّة): أي خلق شخصية على طراز مؤلفها أفكاراً وهموماً، واستلهاماً لبعض تجاربه، بل ثمّة أنواع روائيّة تكون (الشخصية المرجعية الواقعيّة) دعامتها الأساسيّة، كالرواية السيريّة التي يقدّم المؤلف “حياته” محكيّاً، و”أناه/ هو نفسه” شخصيّةً أساسيةً، ويشكّلهما من خلال التخييل، مثل ذلك نجده في الرواية التاريخية، إذ تكون شخصياتها واقعية/ مرجعيّة، أعيد إنتاجها من خلال التخييل أيضاً.
إيقاع الحياة العراقية
ويتساءل الروائي أسعد الهلالي: ألا ترون أنَّ الواقع أكثر غرابة من الخيال أحيانا؟ أليس ثمّة واقع سريالي، وآخر فنتازي، فالكتابة عن واقع كهذا، هل يختلف عن الواقع المجرّد بشيء؟
مضيفاً: الشخصيات المتخيّلة تحمل سمات واقعية في الأحوال كلّها لأنَّها نتاج إبداع مؤلّفها، والمؤلّف ليس مصوّراً فوتوغرافياً بالضرورة، ينقل السمات السائدة والظاهرة للشخصية، أو يتعاطى مع حكاياتها وفقما يراها أو يسمعها، ولا يظنُّ الهلالي أنَّ كاتباً حتَّى أولئك الذين يستمدّون قصصهم وشخصياتهم من الواقع ينقلون بفوتوغرافية، فما دام المؤلّف يحمل في داخله خليطاً من عصارة قراءاته ومشاهداته وتجاربه وسنوات عمره المتخمة بالأحداث والتقلّبات، لاسيّما في بلد مثل بلدنا العراق الذي لا يكاد يمر يوم من دون أن يفاجئنا جديد، حتَّى إيقاع الحياة والأحداث في العراق يختلف كثيراً عن مثيلاته في بلدان أخرى، و”من تجربتي الشخصية في رواياتي، استفدت كثيراً من شخصيات واقعية أو تجارب شخصية جعلتها ركائز لأحداث ما أروي، لكنّني اضطررت إلى إعمال العقل والحسّاسية الشعرية أحيانا لأصنع علاقات وروابط بين الشخصيات أو لصياغة حدث ما بشيء من الإثارة التي أفترض أنَّ القارئ يحتاج إليها كي يواصل قراءة الصفحات بانجذاب يسعى إليه الكاتب”. فالشخصيات الواقعية هي الأقرب للتناول، وهي الأكثر صدقاً، لاسيّما أنَّ الاقتناص الذكي من قبل الكاتب للشخصية بِسِماتِها الخارجية أو الداخلية، وما تعيشه من أحداث وعلائق مثيرة وغنيّة، يجعل من بناء الرواية أكثر سهولة ويسر.. وتصبح الشخصيات المتخيّلة بشكل أصيل أقل إثارة ورغبة للتعاطي معها..
الواقعي والمتخيّل
ويشير القاص والروائي ضاري الغضبان إلى أنَّ السرد عموماً هو إعادة قراءة الواقع، كما أنَّ المستهدف- المتلقي- هو المعني الأوّل بتلقي آراء وأهداف الروائي من خلال السرد، وعليه فإنَّ شخصيات الروائي تكون أكثر تأثيراً في ما لو أحسَّ بها القارئ، بمعنى أن تكون قريبة من هواجسه ورؤاه...
ومن ثمَّ أنَّ المُتخيَّل- كشخص أو شخوص- في الرواية، عندما يخرج عن سياق الواقع؛ يُشعر المتلقي أحياناً بعدم التناغم مع الطرح، لا سيَّما حين يكون المتخيَّل غارقاً بالجنوح والفرضيات التي لا تنسجم مع تجارب الحياة لأيِّ مجتمع...
والرواية كفن كتابي أصبحت تعبّر عن تجارب الأشخاص والشعوب، وتوثّق للتحوّلات الاجتماعية والاقتصادية... وحتَّى السياسية منها، كما تعبّر بشكل أو آخر عن الميول الإنسانية والعاطفية، ولنا في الواقعية السحرية للأدبين الألماني والأمريكي اللاتيني خير مثال، صحيح هنا يختلط الواقع بالمتخيّل، غير أنَّه يسند لطرح آمال وآلام مجتمعية وطرحها برمزية تنسند للبيئة والحدث الحقيقي للواقع وتعبّر عن رؤاه...
كما يجب ألَّا ننسى اهتمام جمهور القرّاء بشكل كبير بكتب السيّر الذاتية وهي نقل واقع لا غير، وفيها يجد القارئ تلك التجارب عبارة عن سرد غير مصطنع.
 تناص الشخصيات
ويشكك الروائي علي الحديثي بطبيعة تساؤلنا، مفترضاً من خلال قراءته قولنا إنَّ (عمل الروائي إنتاج شخصيات متخيّلة)، وعلى الرغم من اقترابه من فهم تساؤلنا، غير أنّه يجيب بأنَّ العمل الروائي ليس محدّداً بطبيعة الشخصيات التي يتناولها في روايته، سواء كانت متخيّلة أو واقعية، إلّا أنّ الشخصية الواقعية- وهي الشخصية الأغلب جدّاً في الروايات- هي الأكثر تأثيراً في القارئ إيجاباً أو سلباً، فضلاً عن أنّها أكثر إقناعاً في إيصال الفكرة التي يريد الروائي إيصالها، هذا من جانب، وهو الجانب المتعلّق بالقارئ..
ومن جانب آخر، وهو المتعلّق بالروائي، فالشخصية الواقعية أشبه بخريطة بيت جاهزة، يقوم الروائي بإجراء بعض التعديلات عليها بما يناسب روايته، يعني هي خامة جاهزة له، وبالتأكيد هذه الطريقة أكثر سهولة من رسم خريطة جديدة (خلق شخصية جديدة متخيّلة)، برغم قناعتي بأنّه لا توجد شخصية متخيّلة بحت إلَّا في القليل النادر، الخرائط مستعملة كلّها، وعمل الروائي فيها كما قلت تحويرها بما يناسب فكرته، وهنا سيتجلّى إبداع المبدع في أسلوبه وصياغته، وفي الزاوية التي يتناول بها تلك الشخصية، وهل تناول الأدب الكلاسيكي الذي تعلّمنا منها، ونشأنا بين سطوره، وارتوينا من سرده، إلَّا الشخصيات الواقعية، ومن يطّلع على سيرهم الشخصية، وعلى رواياتهم، فسيجد مدى التناصّ الكبير بينهما.