المطلق والموضوع في الخط العربي

ثقافة 2024/04/03
...

مرتضى الجصاني

ينطلق الخط العربي في أعماله من منطلقات مختلفة عن الفن التشكيلي أو الفنون الأخرى، ذلك لأنه يتبنى نظرة جماعية، تراكمية، تكونت نتيجة فلسفات وطقوس إسلامية مجتمعية. كنا قد تطرقنا لذلك في مقال الخطاب الجمالي والتأويلي للخط العربي، لكننا بهذا المقال سنركز ونسلط الضوء على تفصيلة من هذه التفصيلات الجمالية والإشكالية بنفس الوقت، هي المطلق والموضوع في أعمال الخط العربي حصرا، إذ لا نقصد منها عامة مفهوم المطلق، وإنما المختص في أعمال الخط العربي، وبالطبع ما يتفرع منه من أعمال حروفية وغيرها . مفهوم المطلق في الخط العربي
لقد درج الخط العربي منذ وجوده بصورة فنية على مفاهيم وأصول ثابتة جعلته مستمرا لغاية الآن، منها غياب صورة الفنان في أعماله، وتحليل الصورة الجماعية في لوحات الخط العربي، ومن هنا اتجه الفنان المسلم إلى التعبير عن المطلق في لوحات الخط العربي، وذلك من خلال التشابكات والعلاقات بين الحروف والكلمات وأماكنها وأشكالها، واتخاذها أشكالاً مشابهة إلى الشكل الإنساني في التعبير عن حالات الوجد والخشوع في حضرة النور الإلهي المطلق، واتخاذ النص وسيلة أو تعبيرا عن محتواه ومفهومه.
ومن تعريفات المطلق، أنه الذي لا يحده حد وليست له نهاية، والخط العربي هو نسق دائم في هذا المطلق الذي تتجلى صور الحروف في وصفه، وتتلاقى وتتقاطع وتتشابك في لغة غريبة لا تعبر عن شيء سوى النص الإلهي في تماهيه مع النور المطلق.
اللوحة الخطية سياحة روحانية
لا ينفك الخط العربي من صنع طلاسم متجددة مع كل تركيب جديد يصنعه عقل الخطاط وتنفذه يده، طلاسم تخلق مساحة للتأمل في غايات النص وتأويلاته، بغية الوصول إلى معنى فضيل لينفع الإنسان في تقويم سلوكه الإنساني ويجعله أكثر إنسانية. إن الوصول إلى المطلق لا يتم من دون هذه السلوكيات الأخلاقية النابعة من النص الديني . وبهذا يخلق الخط العربي في لوحاته ألفة بين الخالق والمخلوق، لدرجة خلو اللوحة الخطية من ذات الخطاط وجعلها تعبيراً كاملاً عن المطلق الأبدي الذي لا ينتهي، خالياً من شوائب الذات واختلاجاتها .
إذن من المفارقات الجمالية أن تكون اللوحة الفنية خالية من الموضوع، وفي الوقت ذاته تحمل قيما جمالية عالية، وهذا ما جعل الخط العربي من الفنون الجمالية العالية.
إن الانتقال من اللوحة الخطية التقليدية الخالية من هم الفنان والموضوع، إلى لوحة خطية تحمل مضامين فنية خاصة بالفنان، وموضوعات إضافية غير الجماليات المتعارف عليها، ليس بالأمر البسيط . ذلك لأن فن الخط العربي فن مجرد، وبالتالي سيكون من الصعب تجريد المجرد أو كتابته كشكل جمالي خاليا من الموضوع، ولابد من استحداث منطقة فنية جديدة في الخط العربي تتخلص من الجمود التقليدي، ولا تسقط في المجرد من المعنى تماما، والاشتغال على هذه المنطقة يتطلب رؤية فنية عالية ومهارة خطية عالية أيضا، واستخدام إمكانيات الخط العربي المعطلة وصنوفه أيضا، إذ ينطلق الخط العربي من معطيات فنية راسخة مع التراث، ويمكنه أن ينفتح على مواضيع أكثر سعة
 النقد الخطي
عند الحديث عن الخط العربي بوصفه فنا، لابد من وجود مقومات لهذا الفن، لكي تتشكل الصورة الكاملة له من خلال أعمال التناول الفني من النقد والإثراء، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق النقد الفني، وبما أننا ذكرنا أن الخط العربي اتجاه مختلف من الفنون، وهو يندرج ولا يندرج تحت مظلة الفن التشكيلي، ذلك لأنه يضم العناصر الفنية ذاتها التي يعتمد عليها الفن التشكيلي بصنوفه المتعددة، لكنه في الوقت ذاته يبتعد عن جوهر الفن التشكيلي وهو موضوع العمل الفني، إذ يتخلى الخط العربي عن الموضوع في العمل الفني، انطلاقاً من مفاهيم إسلامية معقدة ويتسامى إلى المطلق المجرد. إذن مع عدم وجود موضوع للعمل الفني لا يمكن أن يتشكل مبنى نقدي يتناول العمل بجوانبه التقنية ومقاصده الموضوعية، لذلك بقي الخط العربي يفتقد لهذه التفصيلة الأساسية في الفنون، وإذا أراد الخط العربي أن يكون فنا كما يجب، علينا أن نجد الموضوع حتى يتسنى لنا الدخول في عالم كبير وحقيقي اسمه النقد الخطي. هذا النقد يفكك العمل الفني ليس من جهة وصفية وتحليلية للعمل فقط، بل يذهب إلى أبعد من ذلك في رؤى تناقش الموضوع وهموم الخطاط عندما يضعها على السطح الفني باختلاف أنواعه وخاماته، وإن كانت هناك محاولات نقدية حالياً في مجال الخط العربي، لكنها ليست نقدية بمعناها الحقيقي، وإنما تمارس نوعا من أنواع النقد الوصفي للعمل، وهي قراءات للنص وإتقانه أكثر من الدخول في موضوعات اللوحة .