من بواكير الوعي النسوي العربي

ثقافة 2024/04/03
...

د. نادية هناوي

كان ظهور المرأة المتعلمة في مجتمعات الشرق الأوسط مطلع القرن العشرين استثناء من حال عامة فيها غالبيَّة النساء غير متعلمات. وكان في هذا الاستثناء بضعة نماذج لنساء تركنَ أثراً بكتابتهنَّ للسير والتراجم. وعلى الرغم من أسوار التقاليد والعادات، فإنهنَّ وجدنَ في العناية بالتاريخ تأكيداً لعنايتهنَّ ببنات جنسهنَّ، فركزنَ اهتمامهنَّ على تدوين تواريخ النساء الشرقيات والغربيات جنباً إلى جنب تدوين تاريخهنَّ الشخصي، منطلقات من فكرة أنَّ كتابة السيرة الغيرية هي الطريقة الأكثر نجاعة في الدفاع عن مكانة المرأة داخل المجتمع، وبها يمكن اختراق احتكار الذكور كتابة التاريخ، والمساهمة من ثم في تعزيز قضية المرأة وأنَّ لها تاريخها النسوي الذي ينبغي أن تكون له مكانته في التاريخ العام.
وهو ما تنبهت إليه زينب فواز (1850ـ 1914) فجمعت سير النساء اللائي ذكرهنَّ التاريخ العام وخصصت لهنَّ معجماً هو بمثابة أرشيف نسوي وحمل عنواناً أثيراً هو (الدر المنثور في طبقات ربات الخدور) وصدر عام 1894 بأكثر من 879 صفحة. وما وصفها النساء المترجَم لهنَّ في هذا الكتاب بالدر المنثور سوى تأكيد على ما لهذا التاريخ النسوي من أثر في رفع مكانة المرأة وتوكيد دورها في الحياة.
وقد رتبت زينب فواز سير النساء المشهورات والمعروفات عربياً وعالمياً بحسب الحروف الهجائية وبجزأين: الأول يبدأ من الحرف أ إلى الحرف س، والجزء الثاني يبدأ من الحرف ش إلى الحرف و. ونالت بسبب هذا الكتاب شهرة أدبية واسعة أولاً لجهدها الكبير غير المسبوق وثانياً لوعيها النسوي المبكر على وعي كثير من الرجال الأدباء وثالثاً مساواتها لقاسم أمين في دعوته النهضوية لتحرير المرأة وكذلك دفاعه المستميت من أجل أن تنال حقوقها.
ولقد أكدت زينب فواز في المقدمة أهمية التاريخ مبينة أنها أول امرأة تؤرخ للشهيرات من بنات جنسها وعن ذلك تقول: (إنه لما كان علم التاريخ أحسن العلوم وأفضل المنطوق والمفهوم كثرت رجاله واتسع نطاقه.. ولم أرَ في كل ذلك مَن تطرفَ وأفردَ لنصف العالم الإنساني باباً باللغة العربية جمع فيه من اشتهرنَ بالفضائل وتنزهنَ عن الرذائل.. فلحقتني الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفر يسفر عن محيا فضائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل وجمع شتات تراجمهنَّ بقدر ما يصل إليه الإمكان وإيراد أخبارهنَّ من كل زمان ومكان)
وكان سعي زينب فواز نحو ممارسة فعل التأرخة متأتياً من عمق قراءاتها في كتب التاريخ، مما مكنها من ممارسة كتابته مخترقة بذلك ميداناً طالما ظل حكراً على الرجال.
والجميل أنها لم تعتمد في ترجمة أعلام النساء على كتب التاريخ حسب، بل استعانت أيضاً بالمجلات والجرائد والدوريات كما رجعت إلى آراء كاتبات جايلنها مثل مريم مكاريوس. ومن ميزات زينب فواز في كتابة التاريخ النسوي، أسلوبها الأدبي المشوق والبليغ فوصفت مثلاً نزهون الغرناطية بالقول: (جوهرة لم يسمع بمثلها الدهر وفريدة فاقت على نساء العصر فما الآداب إلا نقطة من بحرها الرائق، وما الجمال إلا من نور وجهها الشارق، لها ناد لم يؤمه إلا الأفاضل) ولا عجب أن يكون هذا النوع من الكتابة التاريخية نافعاً ومهماً من عدة نواح:
1) التأثير في النساء المتعلمات ليقمنَ بممارسة الترجمة على مستوى الصحافة مقلدات هذا العمل الفريد الذي كانت فيه زينب فواز (ثاني امرأة عربية تكتب معجماً لتراجم النساء، إذ سبقتها سيدة أخرى من لبنان هي مريم نحاس نوفل)
2) إنه مصدر مهم في دراسة سياسات النوع والبحث عن الهوية في ظل المجتمع الأبوي المنغلق والأحادي.
ولا نتفق مع الباحثة مارلين بوث التي عزت اهتمام زينب فواز بالترجمة الغيرية إلى الرغبة في الخروج عن القياس بين مجتمع المهاجرين السوريين اللبنانيين في مصر لكونها مسلمة تعيش وسط أغلبية مثقفة من الشوام المسيحيين، بل السبب برأينا هو نزعتها النسوية التي جعلتها مدركة بوعي كبير أهمية التاريخ وأنه وحده القادر على التدليل على أهمية المرأة وأنها مثل أهمية الرجل مما يوجب لها الاحترام داخل المجتمع.
وتتضح هذه النزعة النسوية أكثر في كتابها (الرسائل الزينبية) وهو عبارة عن إحدى وسبعين رسالة جمعت فيها كل ما نشرته في الصحف وفيها دعت إلى المساواة في مسائل سياسية وتربوية. ومن آرائها أنَّ المرأة ليست كائناً ناقصاً ومن ثم لا ينبغي أن يغلق (أمامها باب السعادة فلا تعرف نفسها إلا آلة بيد الرجل يسيرها أنّى سار ويديرها كيف شاء ويشدد عليها التنكير بإغلاظ الحجاب وسد أبواب التعليم وعدم الخروج من المنزل وبحرمانها من حضور المحافل النسائية العامة).
وكذلك نزعة زينب فواز النسوية وميلها الشديد للتاريخ في روايتها التاريخية ذات البطولة النسوية (الملك كورش) وهي قصة عن دولة الماديين 751 ق. م . في بلاد مادي بأذربيجان بناها الملك ديجويس، والبطلة هي الأميرة مندان التي يدفعها تفكرها في عبادة النار إلى التساؤل هل فعلاً تقدر النار على خلق البشر وهي التي تلتهم كل شيء؟!
وتحتدم أحداث الرواية حين تتزوج الأميرة من قمبيز الذي يحملها معه إلى بلاد فارس ثم يغرم بها الملك كورس الذي غزا البلاد، وتستهل الرواية بأسلوب حكائي (كان في بدء روايتنا هذه أحد ملوك مادي وهو الملك استياج وكان شديد الحرص على ملكه قوي البطش يعبد النار دون الملك الجبار وكان قد تزوج بابنة ملك ليديا فرزق منها ابنة في غاية من الحسن والجمال فسماها مندان ورباها ورتب لها الأساتذة والمعلمين على اختلاف أنواع العلوم)
وإلى جانب الكتب، فإنَّ لزينب فواز مقالات كثيرة تدلل على فكرها النسوي أيضاً، وفيها حضت المجتمع على تعليم البنات مثل مقالتها المعنونة (تقدم المرأة) المنشورة في جريدة المؤيد المصرية بتاريخ 12 شوال 1309 وفيها قالت: (ما من أمة انبعثت فيها أشعة التمدن في أي زمان كان، إلا وكان للنساء فيه اليد الطولى والفضل الأعظم كما لا يخفى ذلك على من اطلع على تواريخ المصريين واليونان القدماء فكل هذه الأمم المتمدنة كانت تعتبر النساء عضواً لا يتم العمل إلا بمساعدته).