مساهمات في المسرح السوري: {هادي المهدي وحكيم مرزوقي} أنموذجا ً

ثقافة 2024/04/03
...

بسام سفر

لعبت المدن في الحواضر المشرقية عبر التاريخ دوراً حضارياً, واستقطبت العديد من البارزين في مهنهم, وكان لدمشق, والقاهرة, وبغداد, وبيروت دور مميز في مجال الفنون والصحافة, وحضور المبدعين خصيصاً إذ تحدثنا عن العديد من هذه المدن قبل تقسيمات الاستعمار الفرنسي- البريطاني التي تجلَّت في اتفاقية (سايكس – بيكو) لتقسيم المنطقة في مطلع القرن العشرين.
وكانت القاهرة قد استقبلت المسرحي السوري أبا خليل القباني, وعمل فيها بعد أن طرده العثمانيون من دمشق, وعاد إليها مع تغير الوالي العثماني الذي كان يحكمها, وعودة الوالي مدحت باشا.

وفي القرن العشرين أسهم فنانون عرب في وجود واستمرار المسرح السوري سواء بالمشاركة المباشرة في الحضور بدمشق أو عبر الفرق المسرحية التي زارت العاصمة وغيرها من المدن السورية, وقدمت عروضاً على المسارح السورية, وكان الرحابنة قد قدموا العديد من مسرحياتهم الغنائية على مسرح معرض دمشق الدولي, وكذلك العديد من الفنانين  المصريين واللبنانيين، وفي مقدمتهم الزعيم عادل إمام ومحمد صبحي، وكانت آخر الفرق التي قدمت عرضها فرقة “الدن” العمانية على مسرح الحمراء بدمشق،
 أما في الجانب الآخر فقد أسهم العديد من الفنانين العرب في تأسيس واستمرار المسرح السوري, وفي مقدمة هؤلاء الفنانين المخرج الفلسطيني الأردني هاني صنوبر الذي أسهم في تأسيس المسرح القومي السوري, وأخرج له عدداً من المسرحيات ما بين العام1960 و1963, وهذه المسرحيات هي “أبطال بلدنا للكاتب يعقوب الشاروني, وشيترا للكاتب طاغور, والمفتش العام للكاتب الروسي غوغول, والأشباح للكاتب هنريك إبسن, والفخ للكاتب روبرت توماس, ومروحة الليدي ونرومير للكاتب أوسكار وايلد, ورجل القدر للكاتب جورج برناردشو”.
وفي تسعينيات القرن العشرين أقام في دمشق مجموعة من المخرجين العراقيين منهم الدكتور جواد الأسدي, والمبدع باسم قهار, والراحل هادي المهدي، وصلاح الهادي, قدم كلٌ منهم عدداً من المسرحيات على مسارح دمشق, حيث قدم الأسدي نصاً للكاتب الراحل سعد الله ونوس” الاغتصاب” أثار مجموعة من النقاشات السياسية في رؤية للكيان الصهيوني في نهاية عقد الثمانينات وبداية التسعينات مع التحولات السياسية الكبرى في العالم، وعرض العنبر رقم ستة المأخوذ عن قصة لتشيخوف.
بينما عاد القهار إلى كلاسيات النصوص المسرحية العالمية إذ قدم على مسرح الحمراء بدمشق, سريز ديزمونه مأخوذاً عن نص شكسبير بفهم وقراءة خاصة له, وكان قد قدم على مسرح الحمراء ذاته مسرحية”عربانة” للشاعر مظفر النواب, والمخرج صلاح الهادي الذي قدم عرضاً وحيداً على مسرح القباني بدمشق.
أما المخرج الراحل هادي المهدي فكان قد قدم العديد من العروض المسرحية على مسرح أبي خليل القباني بدمشق, كان بدايتها في عرض “دائماً وأبداً” الذي عالج فيه حكاية السجن العربي من خلال خمس شخصيات تتصارع في السجن، جسدها “زكي كورديلو, صلاح الهادي, بسام ناصر, غسان الدبس, رمضان حمود, ومحمد مصطفى”, وقدم لها قائلاً:” ثمة أشخاص يفقدون بوصلتهم الداخلية باستمرار.. يجلسون ويتحدثون ..تتفشى بينهم الرغبة بتدمير الذات والأخر.. وبينما هم يتحدثون ربما ينتهون إلى تحطيم حياتهم!
دائماً وأبداً دعوة( لوليمة) الحوار..الحوار( المشاكس) بين الكائن والممكن/ بين المعرفة والجمال/ بين الأنا والشخصية/ بين المكتوب والمرتجل/ بين العفوي الطازج والمدبر/ بين الممثل والمخرج والفضاء المسرحي/ بين الشعري- واليومي/ حوار يقوم على الاقتراح البصري والمعرفي بلا مصادرة.. وبدون مسلمات../
وفي النهاية هي محاولة/ لمقاومة التلف/ النسيان/ الإدمان/ الاعتياد/ الأمتثان/ العرض مقترح/ وبلا نوايا مسبقة(الصنع)!”.
وقدم هذا العرض على موسمين مسرحيين متتاليين في صيف العام1996, وأعيد تقديمه في شتاء الموسم المسرحي 1997, على ذات المسرح.
أما العرض الثاني للمخرج الراحل هادي المهدي كان بعنوان” دم شرقي” منودراما, من تأليف الكاتب والمخرج والممثل الراحل طلال نصر الدين, وتمثيل “ميديا رؤوف بيكر”.
وعالج العرض حكاية زواج من الطوائف والأديان المختلفة في سوريا من خلال شخصية نسائية تخلَّت عن أهلها وطائفتها بسبب الحب والارتباط بشاب من خارج هذه الطائفة, ليعود هذا الزوج الشاب فيتخلى عنها ويعود إلى طائفته, فيكون مصيرها القتل والانتقام من أهلها.
 والعرض الثالث كان بعنوان” الكراهية” مأخوذ عن فيلم (سوناتا الخريف) للمخرج السويدي أنغمار غمان, باسم فرقة المعهد العالي للفنون المسرحية، وتمثيل” خديجة غانم, ميديا رؤوف بيكر, طلال نصر الدين, نهاد عاصي”، وعن العرض يقول الراحل المهدي” في الكراهية ما من معجزة أخرى.. الإنسان يتكلم!!, والكلام في جوهره ممارسة يومية للقتل آخر بث الحياة..زيارة قصيرة جداً.. وحديث عابر عن الماضي.. يوديان بحياة هشَّة قائمة على الكراهية.. جمل نصف مضاءة.. عالم مصاب بالهلع.. شخصيات تصرخ في أنها لا تصغي إلا لصوتها.. يقدم العرض شخوصه أمامنا لا ليدينها بل ليمتحن الحياة نفسها, عملنا منذ البداية بحذر شديد..ذلك أن شخصيات المسرحية وجدت معزولة عن مشاغلها اليومية.. وهي مبتلية بحياة راكدة لا حركة فيها.. حياة لا تميل إلى الحركة.. بل هي ضد الأفعال بالقدر الذي تؤسس فيه شكلاً خاصاً للانفعال.. عمل الجميع باجتهاد وصبر..وافترضا العديد من الحلول.. كان هذا آخرها.. عالم ثابت يميل إلى الانكسار.. كمحاولة لرسم صورة لهذه الحياة المشلولة.. لا أمل لها سوى بالتسامح وصياغة بصرية نعتقد أنها تنتمي لروح الطقس المعاصر وفق أسس معرفية وجمالية”.
 ويكتب الراحل هادي التالي “يهدي فريقنا هذا العرض إلى (أطفال العراق) ومن يموتون هناك جوعاً وقهراً.. أو مرضاً”.
وأخرج الراحل المهدي للمسرح العسكري مسرحية “جذور الحب” على منصة المسرح العسكري بدمشق (سينما العباسية سابقاً), وهي من تأليف سليمان الحاج, تتناول القضية الفلسطينية والجولان المحتل, وقال عنها:” بدءاً مما يخص قضية الشعب الفلسطيني المذكورة في النص..أنا شخصياً مع القدس ومع فلسطين بلا حدود, وبلا شروط, وبلا مداهنات, وأنا اعتقد بنفسي كشخص وكفنان آخر من يؤمن بمشاريع التسوية والتصالح والتطبيع.
أنا أعتقد أننا نخوض صراعاً حضارياً مع كيان فيروسي جرثومي يجب اجتثاثه أو الانتحار. وكانت لدي تجارب قديمة في العراق بالعمل على عروض, للقضية الفلسطينية مثل” الخسوف” لرياض عصمت, ومسرحة قصيدة” أحمد الزعتر” للشاعر محمود درويش, وأنا أقولها بشكل جازم إن الكائن الفلسطيني في الأرض المحتلة أو في الخارج هو ما قال عنه درويش تماماً” باسم الفدائي الذي خلق من جزمة أفقاً”.
اعتقد أن الفلسطينيين بجزماتهم خلقوا لنا أفقاً أكبر مما نستحقه نحن العرب, وبالعكس هم الذين يمنحوننا هويتنا الحضارية- الصراعية إزاء مشاريع التسوية والإذلال والبيع الرخيص للهوية والتراث والتاريخ والحاضر والمستقبل. الفلسطيني الذي يقتل يومياً هو هوية لابني ولحفيدي.
أما الكاتب والمخرج المسرحي الراحل حكيم مرزوقي كتب من النصوص المسرحية حيث كانت البداية مع نص عيشة الذي أخرجته رولا فتال وجسدته على مسرح القباني بدمشق الراحلة رائفة أحمد بتاريخ12 /6 /1996, وكتب الراحل حكيم  أبيات للشاعر التونسي آدم فتحي:
خطوتهم كالجمر    وفي آخر الحكاية
ويحلمو بالقمره     تنكسر المراية
مرايا  بين أيديهم     وما تحكيش عليهم
وعن اللهجات التي استخدمتها عيشة يقول:”هذا يتعلق بتجربتي الشخصية, هذا نابع من معرفتي بالأقطار العربية المشرقية والمغربية, ولأنها تحمل هماً عربياً مشتركاً بإضفاء صيغة عربية على العمل للخروج من صيغة المحلية الضيقة, واعتنيت بالحالات المكثفة والمتوترة لتقديم بنبضها الداخلي والإيقاعي, وهذا ضرورة فنية لصياغة المنودراما التي تتطلب التوتر العالي وإلا حينها يسقط النص في السرد الإنشائي, فالشخصية في المنودراما لا تحضر إلا عبر الصوت وتنوعه, فليس هناك من لغة أخرى لحضور الشخصية, وليس هناك من جسد آخر في الفضاء المسرحي غير جسد عيشة المسكون بحب الحياة”.
 وفي منودراما “إسماعيل, هاملت” قدم البيئة الشامية التي قال عنها:” إنها تتقاطع وتتقارب مع البيئة الأولى(تونس), ويأتي العمل في إطار بيئي لأنه لدي تحفظ على المسرح الناطق باللغة العربية الفصحى، والمسرح الناطق بالفصحى ليس عربياً. بل نصوص مترجمة باردة- محنَّطة, لا نبض فيها- قادمة إلينا من بيئات أخرى, فأنا مثلاً كعربي أفريقي لا يمكن أن أتفاعل مع معطف روسي على الخشبة, ولا يمكن أن يصل إلي نفس الإحساس الذي يعيش في بلاد الشمس, فالنصوص الناطقة باللغة العربية الفصحى تُسهم في تغريب المسرح, وليس في تعريبه, وإبعاد المتلقي عن المسرح. وأتخيل أن هناك مسافة بين المنطوق والمفكر به, فشخصية( إسماعيل, هاملت) بسيطة شعبية قادمة من قاع المجتمع وهامشه, وإشكاليتها بالوقوف على حواف الأشياء, ورؤيتها أكثر صدقاً وعمقاً وتعبيراً عن الواقع.
وهي شاهد على مرحلة بتحوّلاتها الكبيرة, عبَّرت عنها بعفوية وطرافة وفجاجة من خلال قراءة المجتمع عبر الجسد( الميت والحي), وليس أنسب من إسماعيل المكيَّس والمغسَّل لهذه الحفريات المعرفية, فهذه الشخصية المقهورة, لا تملك أي سلطة لفعل الانتقام غير ما تتيح له وظيفته كمكيِّس في الحمام ومغسِّل موتى, ويغدو فعل الانتقام أعنف وأقوى, وهي شخصية إشكالية صعبة ومركَّبة, تأخذ دور الضحية والجلاد في الوقت ذاته.
إن فرقة الرصيف التي أسسها الراحل حكيم مرزوقي نالت جائزة مهرجان قرطاج المسرحي عن عرض إسماعيل هاملت في العام1997, ونالت مسرحية “عيشة” جائزة بروكسل للفنون المسرحية في العام1998, وجائزة مهرجان (ليفت) بلندن في العام1999.
ومع فرقة الرصيف قدم المرزوقي” ذاكرة الرماد, لعي, الوسادة, حلم ليلة عيد, وبساط حلبي”.
إن وجود المسرحيين العرب في المسرح السوري لعب دوراً كبيراً في تطور وحضور المسرح السوري، وأكسبه صفة إضافية عبر إغنائه بالنصوص والعروض التي شكَّلت حافزاً للمسرحيين السوريين من خلال البحث العميق في الشخصية السورية بكافة جوانبها الحياتية واللهجوية والقاعية المستمدة من عمق المجتمع السوري المتعدد والمتنوع بعيداً عن السكونية الظاهرة التي تطفو على سطح الأشياء, بينما بحث الراحلان هادي المهدي, وحكيم مرزوقي في عمق الإنسان السوري ومشكلاته المتنوعة.