عبد الله السيد.. منحوتاتٌ ملحميَّةٌ

ثقافة 2024/04/03
...

  أحمد عساف

ولد النحات عبد الله السيد، في مدينة مصياف السورية عام 1941.
وشغف منذ صغره بالرسم وكتابة الأدب التي يدين بتعلقه بمبادئ الرسم والزخرفة، لنخبة من معلمين تعاقبوا على تدريسه أمثال رشاد قصيباتي، وناظم الجعفري وغيرهم، كما وكان لطبيعة مدينته مصياف أثَّرَ في مخزونه الصوري، فضلاً عن دور شقيقه المحب للفنون الشاعر محمود السيد.
تحفل سيرة حياته بالكثير من الأحداث والانعطافات والإبداعات، التي تستحق الوقوف طويلاً عندها، لأنها أخذت اسمه إلى أرجاء المعمورة، فبعد أن نال السيد شهادة الثانوية العامة انتسب إلى كلية الفلسفة بجامعة دمشق، وهناك عمّق قراءته للأدب والفلسفة، وبدأ ينشر كتاباته، ثم عمل بعدها محررا في جريدة، حيث توطدت علاقاته مع الأدباء والفنانين، وبعد أن حاز اجازة جامعية في الفلسفة.
انتسب إلى كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وكان من أساتذته فاتح المدرس ولؤي كيالي والمصري أحمد أمين عاصم، الذي يلقب بالأب الروحي للنحت في سورية، فغدا من كبار طلابه ونهل من مبادئه الكثير  
وبعد تخرجه في الكلية عام 1971 بدرجة امتياز بمرتبة الشرف، أقام معرضاً مشتركاً مع عمالقة النحت وقتها، وهم: "سعيد مخلوف، وعبد السلام، قطرميز، ومحمود دعدوش"، ثم سافر إلى فرنسا، وانتسب إلى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة في باريس، وتتلمذ على يد رئيس قسم النحت فيها الفنان هنري إتيان مارتن، وحاز الدكتوراه في النحت من جامعة السوربون الفرنسية.
ولدى عودته لبلده سورية درّس في كلية الفون الجميلة بدمشق، ثم ترأس قسم النحت فيها.
حبث يعتبر السيد أحد أبرز النحاتين في المشرق العربي.
ومنذ عقد التسعينيات برز جلياً إبداع عبد الله السيد في عالم النحت فحمل اسمه إلى الآفاق ولاسيما أعماله النصبية التي وصفها النقاد بأنها: (ذات نزعة ملحمية تحفل بالعديد من العناصر والرموز ضمن مشهدية آسرة، تعكس ثقافته النظرية والبصرية الواسعة).
لقد مزج وزاوج السيد في أعماله النحتية بين الميثيولوجيا والتاريخ وسحر الأساطير العربية ورموزها، وكذلك الواقعية التعبيرية عبر مسحة فنية شفافة، لا سيما في تركيزه وتميزه في الكتلة مقابل الفراغ، بأسلوب تعبيري مدهش.
وهذا ما وجدناه في نصب الشاعر أبي تمام، ونصب الشهداء، وشرخ المحبة وغيرها.  
يتعامل عبد الله السيد مع المادة والفضاء، والحركة والضوء بطرق تعكس عمق رؤيته وسعة خياله ومقدرته الاستنباطية، فهو يجعل من الصورة الإنسانية وما ارتبط بها من رموز وإشارات محور عمله النحتي، ويسعى من خلالها إلى إبراز قيمتها التشكيلية النحتية الأساسية، مؤكداً على أهمية العلاقة الجامعة بينهما، كالعلاقة بين الحجم والفضاء بالمحيط به بين النتوء والتجويف العميق وما ينتج عنهما من تقابل بين النور والظلام والكتلة والفراغ.  
ويُعدٌّ منحوت "صلاح الدين الأيوبي" القائم على أسوار قلعة دمشق هو الأكثر جماهيرية.. هذا التمثال الذي استغرق تنفيذه ثلاثة
أعوام.
وهو من أهم الأعمال النحتية التي أمست واحدا من المعالم الدمشقية المهمة، استخدم فيه السيد، مادة البرونز لإضفاء المهابة عليه، ويُظهر نصب صلاح الدين ممتطيا جواده ومحاطا باثنين من الجند المسلمين، وخلفه اثنان من أسرى الفرنجة، الذين أسرهما الأيوبي عقب معركة حطين.
يصل ارتفاع النصب إلى ستة أمتار وعرضه ثلاثة أمتار، وطوله خمسة أمتار ومساحته 12 متراً مربعاً.
أزيح الستار عنه في عام 1993 بمناسبة الذكرى الـ800 لوفاة صلاح الدين الأيوبي.
في ظاهرة نادرة تم وضع صورة هذا العمل النحتي على الورقة النقدية من فئة 200 ليرة سورية.
أما "سفينة نوح الدمشقي" فقد أنجزها من الحجر الرحيباني عام 1999، وهي موجودة في حديقة التجارة في دمشق.
نرى تجسيداً لسقراط وهو يجلس بوضعية تدمرية يتناول كأس السم، ومعه أربعة وجوه الأول صارخ مقلوع العين، والثاني صامت بأذن كبيرة، وثالث حزين وبجبهة ضيقة، والرابع غاضب ومرفوع الحاجب، ونقرأ في أسفل المنحوتة أبيات شعر للنحات السيد:" صلّيت ركعتي عشق على جبل قاسيون/ فطارت حمامتان: واحدة فتحت باب المشرق/ وواحدة فتحت باب المغرب، استلقيت في سفينة الشمس بينهما".
كما وتتوزع أعماله النحتية في سورية ولبنان وامريكا، منها منحوتة بعنوان "الروح الدمشقي" في ألمانيا، وعمل "رغبات جلجامش" في فرنسا، وغيره.
رحل عبد الله السيد في دمشق عن عالمنا في العام 2022 عن عمر ناهز الـ 81 - تاركا خلفه الكثير من الإبداعات، التي ستخلده على مر العصور.