من كسور ومراثي بسام حجار

ثقافة 2024/04/03
...

  يقظان التقي

كان رحيله منذ خمس عشرة سنة صمتاً مفجعاً مطبقاً وعنيفاً. قصفه الموت قبل إتمام مسيرته وألقه والتماعه وتجربته شاعراً وكاتباً وناقداً ومترجماً وفي جميع أحواله.
هو الذي عاش بين هجرات الحروب وجولات العنف وهجرات السلم، هو الرافض للعنف والقتل والإلغاء وحروب الآلهة جميعاً، وجنون الطوائف والمذاهب والتعصب.
هو الذي كان بالكاد يومئ إلى ذاته وبتجريدية عالية وداخل تجربته ومكانه ولغته وشخصيته وبيته وقصيدته.الساخر النظرات، القاسي، لكن المرهف والجمالي.
تقرأه لغة مركّبة موحية بذاتية، وبكيمائية لغوية مكثفة وبخصوصية جمالية في التعاطي مع اللغة.
قدَّم إلى المكتبة اللبنانية العربية إنتاجاً شعرياً بنكهة فردانية متعددة متمايزة وخاصة، كما قدَّم إلى القراء أجمل الترجمات، ممسكاً بمفاتيح لغوية بشيفرات محددة واسعة الرؤية وباهرة تكتب وتبحث عن أشياء خاصة وكبيرة.
هو المثقف المتطلع بعمق إلى الأشياء، شخصية بالغة الحساسية، مستبطنة لبعض من الغموض في استخدامات اللغة والصورة والرمز باستيحاءات حداثية ومعاصرة لم يدخل إليها كثيرون. وقصيدته كتابة متداخلة في عمق القلق وفي عمق الحالة الشعرية المركبة الشعر ذلك العمل المكتوب بهواجس المادة الوجودية.
في سنواته الأخيرة انتقل بسام حجار إلى الكتابة اليومية شبه السياسية، لا أدري إذا كان يلعب في الزمن الميت للشعر هو ابن تلك الجمالية الشعرية التي لم تسكتها الحرب، لا عن الحرية ولا عن التمرد.
كانت نثريات محملة بماويتها الكيانية وبالسخرية من قيم سياسية، محملة بكل أدوات الترغيب والترهيب والأصابع العليا المرتفعة بوجه الحريات العامة محاولاً تفكيك الخطاب السياسي مؤشراً ليس إلى ماضي الكلمة واللغة، بل إلى مستقبلها بوضوح وموضوعية وبحساسية مع عدم الارتهان إلى رؤية سياسية وحزبية ضيقة أو محددة.
إنسان عرف كيف يحترم الآخرين، لأنه كان يحترم نفسه، ويبحث بهدوء عن علاقات إنسانية محررة من تراتبية فظة وأفكار جاهزة ترسم حدوداً صارمة بين الناس. لذلك كان بسام متواضعاً تواضع القادر باستمرار على مراجعة الذات، والباحث عن حقيقة قيد التبلور الدائم.
حفنة مفارقات. عابس. عبوس. متجهم. غارق في أوراقه، عالق في حزن! لماذا؟ علامَ؟ عنده حق. هو على حق، كل شيء في هذا الوطن العربي يدعو إلى الحزن. وتقترب منه على حذر. تهاجمه، تمازحه، يفتح لك نافذة قلبه، وأنت تعرف عقله. ثم أنه معتصم بصمته إلى أن تجبره على البوح. هكذا البلغاء، الذين يبلغون بالكلام عمق المعنى.
"كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" يقول النفري. ويفعل بسام حجار.
كان أروع من يمثل الشاعر العميق مع أقل ما يمكن من النتوء".
وقبل أن يموت مات شاهراً يأسه في كتاب بارد كرخام الشواهد.
"لا أبالي بي/ إذا متّ أمس/ أو اليوم/ أو اليوم الذي يلي/ ولا أبالي بي/ إن بقيت حياً/ لأيام/ لأعوام أخرى/ فلم يبق لي ما أصنعه برجائي/ بالشهوات التي تبقّت/ لم يبق ما أصنعه بمتّسع اليوم/ كل يوم".
حكاية "الرجل الذي أحب الكناري". إنه شاعر العزلة والصوت الخافت والفقدان. شاعر الحنو على الأشياء والتفاصيل منذ مجموعته الأولى "مشاغل رجل هادئ جداً" عام 1982، إلى مجموعته "تفسير الرخام" الموت موضوع أساسي في كتاباته. إنه من كبار الشعراء اللبنانيين والعرب الذي صنع له تجربة أساسية في قصيدة النثر من غير اجتماعيات وسياسة شعرية.
ولكنها تثير الحزن على ما نخسره مما كان، ليكتبه بسام حجار لو بقي حياً بيننا، في المقالات السياسية أو الأدبية، في الشعر أو ترجمة الشعر والرواية.، "مشاغل رجل هادئ جدا"، ، "فقط لو يدك"، "مهن القسوة"، "لأروي كمن يخاف أن يرى"، "البوم العائلة"، "معجم الأشواق"، "تفسير الرخام" وغيرها.
من الأصوات النادرة والخاصة في قصيدة النثر. إطلالته أواخر السبعينيات جاءت، لتشكّل منعطفاً في المسار الشعري لجيل كامل يبحث عن آفاق جديدة، متسلّلاً خارج «تاريخ محمّل بالقضايا والصراخ والنبوة والتمرد والإحباط». الشاعر والناقد والمترجم اللبناني الذي عاشر الموت طويلاً.
كتب بسام حجّار (1955-  2009) قصائد كثيرة عن الموت. خصَّهُ بقصائد كاملة، ولكن قصائد أخرى أيضاً لم تنجُ من ذكرٍ للموت. ، وثبَّت ذلك في مقدمة كتابه «سوف تحيا من بعدي»، الذي ضمّ ثلاثاً من مجموعاته الشعرية ومختارات من اثنتين أخريين.
ظننّا أنَّ الإكثار من ذكر الموت قد يتحول إلى تميمةٍ أو تعويذة تردعه أو تؤجِّله عن بسام حجار الشخص. لم يقلِّب شاعر عربي حديث الموتَ على وجوهه ومعانيه واستعاراته الكثيرة كما فعل الحجار.
 وحين أصدر مجموعته الأولى لم يجد لها عنواناً أفضل من «مشاغل رجل هادئ جداً» (1980). كان ذاك العنوان واحداً من عناوين ذات جرْسٍ مختلف، أطلَّ بها هو وعدد من شعراء منعطف أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات على المشهد الشعري العربي، كاشفين عن ممارسات وحساسيات ومذاقات نضرة وطازجة.
لم يكتب مراثيَ تقليدية. إذْ كيف تمكن كتابة مراثٍ لموتى لم يكفّوا عن زيارة الشاعر والتجوال في غرف حياته وممراتها؟ كيف السبيل إلى إنجاز مرثية لموتٍ صار مقيماً .الموت هنا، في كل مكان كغيره من الموضوعات، ممارسة شعرية. كان الموت فنَّ بسام حجار الشخصي.
ولهذا كان يبرع في جعلنا نصدق أنَّ الموتى كسروا إناءً أو مزهريةً أثناء تجوالهم في منزل حياته: «لا تجمع الكِسرة إلى الكِسرة/ لكي تقول بحبور القائل: هذا إناءٌ معافى/ أو/ هذه المزهرية التي حفظت روحي/ لن تبرأ من الكسور حطامها/ لن تبرأ من فتنة لمعانها البارد/ كسوراً متناثرة على البلاط/ مبعثرةً/ بين الخُطى الرقيقة/ لطيفٍ منزلي/ ربما كان أختاً أو أباً». هذا المقطع مستلٌّ من قصيدة «تفسير الرخام» التي جالس فيها الشاعر الموت داخل منزل يسمح له بأن يطلَّ على أعوام عمره .
كانت القصيدة أشبه بمرثية ذاتية مسبقة لموت آتٍ: «لا أبالي بي/ إذا متُّ أمسِ/ أو اليوم/ أو اليوم الذي يلي/ ولا أبالي بي/ إن بقيت حياً/ لأيامٍ/ لأعوامٍ أخرى/ فلم يبقَ لي ما أصنعه برجائي/ بالشهوات التي تبقّت/ لم يبقَ ما أصنعه بمتَّسعِ اليوم/ كلّ يوم». في القصيدة نفسها، فكر الشاعر أنَّ الحجر (الرخام/ القبر) هو موطنه ودارته البعيدة، وأنَّ الحياة جعلته «متفرجاً على ميتاتٍ صغيرة».
لا يصلح لبسام حجار أن نقول عنه «الشاعر الكبير». لا ينفع معه هذا الوصف أبداً. فهو من ذلك الطراز من الشعراء الذين وضعوا الشعر في مرتبة أعلى من الشاعر. أما هو، فاختفى وراء الكواليس. وربما ظن أحد ما أنَّ شعره أيضاً يضيء في ذكراه كنجم هادئ وديع بسبب بعده وعمقه.
شاعر خافت مقتضب وخفيف، هوائي في ذروة ألمه وامّحائه. «أتبصر شرفةً مضاءة؟/ إنّها قلبي/ أيّها الغريب!»..
إن كانت العرب تردد حديثها عن «عيون الشعر العربي» بقصد الإشارة في كثير من الأحيان إلى روائع الجاهلية، فإنَّ بسّام حجّار هو شاعر قصيدة النثر الجاهليّ. ولشدّ ما يلامس قارئ شعر حجّار ذلك التناقض الجميل بأنّ مرجعيّة هذه الصنعة الغربيّة لديه هي شعر طرفة وابن الريب. ولا أدلّ على ذلك من مطوّلته المعنونة «حين تكون السماء ليلاً، حين يكون الليل سماء»، وهي واحدةٌ من عيون قصيدة النّثر العربيّة.
قصيدته تحافظ على إيقاعها من دون تكرار أو فائض، كأنّها جنّاز كنسيّ منضبط، أو كربلائية ذاتية استخدم حجّار فيها كل مفردات القسوة ودلالاتها، ولم يترك لنفسه ثغرة. أنت مع قصيدته تفتقد الأمل وتشعر بضآلته أمام «قسوة أن أريد ما أحبّ/ وأن أفقد ما أحبّ/ وأن أجعل البقاء تمارين عادةٍ/ كالعيش/ أو التدخين/ وأودّ الشّفاء منها/ ولا شفاء".
« مقطعٌ آخر من القصيدة المنشورة في ديوانه «بضعة أشياء» (دار الجمل- 1997) في إشارة إلى أخذٍ وردٍ طويلين، يرفض الموت طلبه، وبسّام يُلحّ فيه بحزنٍ جزيل، فيتحدث عن بئرٍ عميقةٍ «أحبّ» أن يسقط فيها، وعن عتمتين «هي السّماء حين تكون ليلاً/ وهي الليل حين يكون سماءً/ ولا أدري/ بين العتمتين كيف أقمتُ/ أربعين عاماً وما انتبهتُ/ وما أيقظني أحدٌ/ إلّا الملاك".
خاض بسّام حجّار في أكثر من مجال أدبي وإبداعي. فهو المترجم المرهف واللبق الذي نقل إلى المكتبة العربيّة مؤلفات إبداعيّة ونظريّة في مجالات مختلفة. وهو الشاعر الذي يعتبر من علامات جيله عربيّاً. وهو الصحافي والناقد الذي واكب الحركة الثقافيّة والفكريّة والأدبيّة عربيّاً وأوروبيّاً وعالميّاً.
ولد في 13 آب (أغسطس) 1955 ودرس الفلسفة في الجامعة اللبنانيّة، ثمّ تخرّج في جامعة السوربون في باريس حاملاً دبلوماً في الدراسات المعمّقة في الفلسفة. بدأ العمل في الصحافة منذ 1978 فعمل في جريدة «النداء» و«النهار» و«السفير». انتقل إلى جريدة «المستقبل» محرراً في ملحق «نوافذ» الثقافيّ وبقي فيه حتّى وفاته.
في مجال الترجمة، عرّب أكثر من 60 عملاً في الفلسفة والعلوم الاجتماعية والرواية، منها مؤلفات لمارتن هايدغر، ومارغريت يورسونار، وجاك دريدا، إضافة إلى ياسوناري كاواباتا وإيتالو كالفينو وأومبيرتو إيكو والطاهر بن جلون. أنجز ترجمة الجزء الثالث والأخير من كتاب «حول الديموقراطية في أميركا» لألكسي دو توكفيل.
ديوانه الشعري الأول هو «مشاغل رجل هادئ جداً- »1980، تلاه «لأروي كمن يخاف أن يرى - 1985 »، ثمّ «فقط لو يدُك -»1990، «صحبة الظلال ــ 1992»، «مِهَن القسوة ــ 1993»، «معجم الأشواق» ـ 1994»، «مجرّد تعب ـ 1994»، «حكاية الرجل الذي أحبّ الكناري ــ 1996»، «مديح الخيانة- 1997»، «كتاب الرمل»، «بضعشة أشياء - 2000 »، «سوف تحيا من بعدي-2001»، «ألبوم العائلة» يليه «العابر في منظر ليلي لإدوار هوبر»، و «تفسير الرخام».