هوامش الكتابة

ثقافة 2024/04/03
...

  حبيب السامر

تظهر بين فترة وأخرى مصطلحات، وسياقات، ومفاهيم، وأساليب متعددة في مجال الأدب، والكتابة، والفن بشكل عام، تأخذ حيزا زمنيا كافيا، كي يدرك المختصون في هذه المجالات بعد تأثيرها في المجتمع، وما يواكبها من نزوعات  وأفكار تقف مع أو ضد هذه الحالة الكتابية التي تعتمد هذا السياق أو ذاك، وقد نستنتج من ذلك شيوع هذا المفهوم ورواج الكتابة فيه، لذلك يعد الفصل بين الأنواع الأدبية وسياقاتها الاجتماعية والتاريخية صعبًا، كونه يعتمد بيئة متواصلة مع حقبها المتلاحقة، لما مرت به من تغيرات مهمة تشتمل على الصراعات المستمرة، التي تتمخض عنها أفكار متلاحقة ومشاكل مختلفة ومعاناة متعددة  كردة فعل واضحة في الكتابة عنها.
وأنت تطالع الدراسات وما كتب عن الديستوبيا كأدب نما وترعرع في القرن العشرين، هناك العديد من الاستفهامات والأفكار، التي لابد أن يتطرق إليها كل من يحاول البحث والتعمق في هذا الأدب المهم، الذي لجأ إليه العديد
ممن يكتبون في المجالات الأدبية والفنون المجاورة، لما يمثله هذا الأدب من حاضنة واسعة لمشاكل وهموم المجتمع، إذ تتجلى ثيمات الكتابة في سياق أدب (الديستوبيا) لتعبر عن سوء الواقع و الوجه المظلم للتخييل الأدبي من خلال علامات مبهمة في واقع مرير، والوقوف على التصور المخيف للعالم الذي يزداد قتامة، كونه يضج بالصراعات وعذابات دواخل الانسان نتيجة لظهور
ثقافات القمع والوضع المأزوم ونشر نتاجات العالم الخيالي والعلمي خارج تصورات الحياة والتي تجمع ما بين السرد والمناقشة النظرية في عالم وهمي يصوّر المستقبل بصورة تشاؤمية، وتتعالق هذه الصور في مناطق مهمشة، تعاني من الفوضى المريرة التي تنتج عن الخرافة بأنواعها  لما تعاني من صراعات مع الذات على مختلف الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية، التي تقدم صورة مشوهة عن المجتمع وحقبة عينة تثير مخيلة الكاتب، وهنا لا بد أن نفصل بين الأدب الديستوبي الذي يعني اضطهاد الانسانية وأدب نهاية العالم، الذي يعنى بالكوارث والحروب بأنواعها التي يهتم بالموت البشري واضمحلال العالم.
لا نريد أن نعيد بعض ما كتب عن الديستوبيا وأصل الكلمة واشتقاقاتها، ما يهمنا أكثر علينا أن نفهم بأنها تقع بالعكس من أدب اليوتوبيا التي تعني المكان الفاضل الذي ينشد الضوء والسعادة، فيما يتحرى الأدب الديستوبي عن الواقع المرير، الذي يسوده الخراب والقتل والقمع  والمستقبل المخيف، الذي تعتمد عليه العناصر الديستوبية، فقد تظهر في الرواية والشعر والسينما والمسرح والتشكيل.
عادة يخضع الأدب المعاصر كما سبقه  للمتغيرات المتسارعة في المجتمع، لذا يسعى الكاتب وفق تخصصاته إلى استخلاص مادته الأدبية من توالي وتراكم الصراعات والأحداث المستمرة لتكون مناخا ملائما لعمله الأدبي كونه يمثل كشفا فاضحا لليوتوبيا  بعد أن سادت العديد من الأعمال المهمة، التي تتطرق إلى مجمل الظروف الانسانية والاجتماعية في ضوء ملامح العمل  الديستوبي من أجل الغور وكشف تلك العناصر وعلاقتها بالحياة، وكيف يتفنن الكاتب في استخلاص مادته الأدبية من الواقع المعيش ضمن رقعته الجغرافية ، أو العبور إلى أبعد من ذلك عبر خياله الخصب، وترجمتها إلى آثار كتابية وفق حوار خطاب فني يكشف الاحلام الخطيرة والهدامة التي برزت في خضم الأحداث المجتمعية، لذا سعى الأدباء والكتاب إلى تشخيص النقاط المنهارة والقبح المجتمعي والفوضى العارمة ويعبرون عنها بأغراض أدبية تسلط الضوء على ديستوبية الأحداث والعوالم ويعبرون عن أساليب القمع وسلب الحريات والحلم بالسعادة الواهمة والتهميش المقصود والجدل العقيم لحياة تعيسة.
ظهرت العديد من الأعمال التي تعنى بهذا المناخ الديستوبي، ولا بد أن نؤشر على بعضها لتكون دليلا زمنيا وشاهدا على هذا النوع ومنها في ما صنفه بعض النقاد بـ"الديستوبيا الثقافية" من قبيل رواية "فهرنهايت 451" للأميريكي راي برادبوري، " نهاية الأسْود" لجورج سكايلر في عام 1931 و" آلة الزمن" لهربرت جورج ويلز و" عالم جديد شجاع" لألدوس هكسلي، وجميس أونيل في روايته القاتمة "أرض تحت إنجلترا"  و" 1984" لجورج أورويل والقائمة تطول، وقد وضحت بعض ملامحها عربيا، كما أشار بعض النقاد في روايات نجيب محفوظ ويوسف ادريس والشرقاوي، وتوالت في رويات ابراهيم نصر الله و أحمد الزعتري وواسيني الاعرج ومحمد ربيع وأحمد خالد توفيق  والقائمة تطول بأسماء كثيرة في هذا المجال، لكننا حاولنا الإحاطة وباختصار شديد، على الرغم من احتشاد اسماء مهمة كتب في هذا الاسلوب والسياق الديستوبي، كونها شخصت ذلك في سردها الممتع والمدهش الذي يلخص القبح المجتمعي والبنية المنهارة لخيمة مثقوبة في يوم ماطر، وقد شكّل القرن العشرون عصرا ذهبيا لهذا الأدب، فإن القرن الحادي والعشرين سيكون ملاذا  للديستوبيا الحقيقية في واقعها المرير.
وتستمر حركة التجديد والكشف المستمرين عن مصطلحات تختص في مجالات الأدب والفن  ونزعم أن ميشيل فوكو قد أورد مصطلح الانتباذ الفضائي (الهيتروتوبيا)، وهو الذي يتناقض مع مفهوم "اللامكان"، وبهذا تبقى شبكة المصطلحات واسعة لتستقطب كل جديد في مجال الأدب وسحره، وربما هناك عودة أخرى للخوض  في هذا الأدب من خلال قراءة محايثة للنصوص الشعرية وبعض الأفلام السيمية واللوحات الفنية  التي اتخذت من هذا الأدب حاضنة له، كي نوضح أن " الديستوبيا" لاتقف عند خط أدبي واحد بل تتعداه إلى مشاريع أدبية وفنية أخرى.