علي لفتة سعيد
لا تهدأ الرواية من كونها الفاعل القرائي الأوّل في عملية التلقي حول العالم، وهي الأكثر قدرة على تعويض النقص الحاصل في إشباع إلهام العالم المتخيّل بعد الملل من الحياة أو البحث عن نواقص الحياة ومآلها وأحزانها ووقائعها وأفراحها، من خلال الرواية التي تضع الواقع بحقيقته أمام التلقي. الرواية أيضا لا تنفك أن تكون هي المنطقة الوسطى بين البحث والتحقيق والكتابة التاريخية، ما دامت هي عملية إنتاج مخيالي لواقع قد مرّ في يوم ما.
ولأنها أيّ الرواية تختلف عن الحقيقة التاريخية التي تزخر بها الكتب التي تعنى دائما بالطبقات العليا للأنبياء وقبلهم الأساطير بآلهتها وأنصاف الآلهة، وما بعدهم الخلفاء والملوك والأمراء والرؤساء والقادة بمختلف المناصب والتسميات التي ترتبط مع أكثرهم بالواقع السياسي، والأحداث التي صنعها وخلقها كلّ هؤلاء.
لتكون الرواية هي المعادل الآخر من الطرف الآخر الذي هو أكثر اتّساعًا وحتى زحمةً، كونها تتحدّث عن القاعدة التي يطلق عليهم اصطلاحًا بالقاع وتستلهم حياتهم وأفكارهم ومتنوّعاهم، بل وتخلق منهم ما تريد من أفكارٍ وفعالياتٍ حكائيةٍ، لتكون أكثر اقترابًا من عملية التلقّي، وأكثر شموليةً في الصدق، وإن كان المتخيّل هو من بنات الكذب اصطلاحًا أو أنها حكايةٌ مؤلّفةٌ مخلّقةٌ لكنها أيّ هذه الحكاية مستلّةً من الواقع، وتكون هي الرديف له والمعادل الموضوعي للحقيقة.
لذا يكون الجواب عن تسيد الرواية وأسبابها، لأنها عملية تفكيرٍ مع المدوّنة وتجسيد شخوصها في المخيّلة وتخيّل الأحداث في التصوّر الذهني النتائجي الأخير، فضلًا عن كونها إن صحّ الكذب فيها لا تؤثّر كما يؤثّر البحث التاريخي أو الكتابة التاريخية التي كتبت بأمرٍ من الملوك والقادة، لتزييف الحقائق أو الإنحياز الذي يؤثّر سلبًا، بكلّ تأكيد على الصدق في الحقيقة التي تم تدوينهاـ ولهذا نرى الصراع الكبير بين الأمم والشعوب بسبب الوقائع التاريخية التي تم تزييفها، ولا نرى صراعا بسبب رواية مثلا.
لذا تبقى الرواية حتى تلك التي اعتمدت على الوقائع التاريخية غير المصدّقة في وقائعها، لا تؤثر بالمطلق التاريخي، ولا تزيح الحقائق عن كونها مؤثّرة في صناعة الواقع السياسي وحتى الديني.
والرواية أيضا تمهيدٌ لمران العقل في جزء المخيّلة التي تحتاج الى قراءةٍ هادئةٍ بتفكيرٍ أقلّ من الحدّية وحتى العصبية التي تتطلبّها قراءة الأجناس الأدبية الأخرى كالشعر مثلا.
فهي قد تكون ملحقًا استئناسيًا، وقد تكون مرحلة تنمية العقل، وتوسيع المدى المخيالي الذي يحتاجه المرء، مهما كان عمله ومنصبه، فبدون الأدب عموما والرواية خصوصًا، لن تكون هناك مخيلة ناضجة للأحداث واتّقان الفعل التحليلي المناسب حتى لرجال الفلسفة الأقرب الى المخيلة التحليلية والتفكيرية، وأيضا حتى لرجال الدين الذين نجد أن الأكثر سماحًا وسلامًا وقدرة على التواصل مع الجميع، والأقل تعصّبًا، والأكثر مقبوليةً هم من رجال الأدب أصلا.
إن الرواية هي الوعاء الذي يمتلئ بهدوءٍ، ولم يسعر القارئ بالامتلاء، بل سيشعر أنه بحاجةٍ الى امتلاءٍ مستمر لهذا (الواقع) الذي يقرأه وينسيه عذابات واقعه (المزّيف) في حالة حصول مقارنةٍ بين الواقع المعاش والواقع المتخّيل الذي تمنحه الرواية.
ولهذا فإنها مرّةً تكون عملية تعويضٍ لنقصان فاعلية تقبّل الواقع بحذافيره، ومرّة تكون فاعلية إسقاءٍ لعطش الهدوء الذي تمنحه القراءة الروائية.
وهي ايضا القاسم المشترك الأعظم الذي تتقاسم معادلات جميع القرّاء من كلّ الاختصاصات، بما فيها الاختصاصات العلمية والتاريخية والجغرافية أو العلوم الإنسانية عامة، التي لا تكون متاحةً للجميع كما هي الرواية، التي تكون بين أيدي الجميع، على العكس من الكتب الأخرى التي تكون بين ايدي من هم من أصحاب الاختصاص، وكل هذا لأن العالم الذي فيها قد تم تخليقه وتصنيعه وإنتاجه، ليكون مرحلة مناصفةٍ بين الغيبية والرؤوية التي تقرّب الأشياء من مساراتها وتحسديها مخياليًا أمام شاشة التفكير لحظة القراءة.
وهو الأمر الذي يمكن التدقيق فيه على الأقل في العام العربي، حين تكون عمليات الاستماع والاصغاء الى الحكايات التي يسردها الأجداد والجدّات هي الأقرب حتى لتلقّي الصغير السامع لهذه الحكايات والحدّودات التي تجذب انتباه الجميع صغارًا وكبارًا حين يكون الجمع على موائد الشتاء، حيث تمنحهم هذه الحكايات، وهي أغلبها روائية بالمعنى العام، الدفء والإصغاء، على العكس الأجناس الأدبية الأخرى وحى الأحاديث غير الأدبية، لأن ليس فيها سوى محاولة شحذ مقدرة المستمع ليتخيّل ما يسمعه ويحوّله الى صورةٍ متجسدة من الشخوص والاماكن والزمان والصراع والفعل الدرامي والمفاجآت التي تمنحها الحكاية في الرواية.
في حين الأحاديث الأخرى قد لا تعطي وضوح الصورة الكلية، وهي صورة قد تكون مشوّهةً من الحقيقة، صنعتها الظروف التاريخية.
بمعنى أن صورة الرواية ممكن أن تتجسّد مخياليًا، وليس قولًا متجسدًا من وقائع قد لا يكون عليها اتّفاق الحقيقة وصدقها في الكتب الأخرى.
إن الرواية هي التي تتسيّد القراءة حيث يكون القارئ في قاعة المطالعة في المكتبات أو في القطار أو في الحافلات أو في أماكن الاستراحة في الأسواق والمقاهي، وكذلك على سرير النوم.
هي الرفيق الذي لا يحتاج الى جهد بحثوي للتأكيد من حقيقة ما يتم استحصاله من معلومات والتي يمكن أن تثير الأعصاب مثلا، رغم ان الرواية أيضا تجعل العاطفة تثار في بعض التفصيل، كون القارئ يتفاعل معها عاطفيًا، في حين أنها تكون أمام المتلقّي الذي يعد قارئًا فاهما، أنها تقدّم له رؤيةً لجزءٍ من الحياة.
إن هذه الخصيصة تجعلها الآن متسيدة، لا تنافسها بالقرب إلا كتب المذكّرات والسيرة الأدبية أو أدب الرحلات، بمسافةٍ هي أقرب من الكتب الأخرى، والرواية أيضا بالنسبة للقارئ كونها خاليةً من المنافسة مع المنتج لها، ولا تشعر بانحيازه لهذه الجهة أو تلك أو هذه الحقيقة التاريخية أو تلك الواقعة الحياتية.
ولا تكون إلّا لكونها تبتعد عن التعصّب الذي تمنحه الكتب الأخرى، ولا تكون دليلًا للتلاعب في الوقائع ذاتها.
وكذلك لكونها رواية تأملية مع اتّساع الضيق النفسي، وعدم الإيمان بما هو حاصل في المجتمعات من متغيّرات، سواء على المستوى السياسي أو الديني، مع اتّساع التحول التقني من الرؤية الشاشوية إن صحّ التعبير بما يعرف بالتلفاز وشبكات التواصل الاجتماعي الذي يمنحه الموبايل أو الهاتف النقال.