رؤية في فلسفة الإيقاع الشعريّ

ثقافة 2024/04/04
...

  محمد صابر عبيد

تتجسد فلسفة الإيقاع عموماً صحبة كل شيء متحرّك أو جامد في الحياة؛ إذ لا يوجد شيء يسكن هذا العالم ليس له إيقاع معين يثبت وجوده، فلا وجود - مهما كان نوع هذا الوجود وطبيعته وصيغته وطرازه ومثاله- بلا إيقاع مطلقاً، على الرغم من اختلاف نوع الإيقاع وصورته ونمطه وطرازه وهويته وشكله وصورته بين شيء وآخر.

 وقد يكون الإيقاع بارزاً وظاهراً ومسموعاً وقد يكون مستتراً وخفيّاً ومحسوساً فقط، لكنّه موجود على أيّ حال وهو بحاجة إلى من يدركه ويلتقطه ويصل إليه، عن طرق كثيرة كالإيحاء والإلماح والمعرفة الباطنيّة العرفانيّة، أو عن طريق التأويل العارِف القادر على الحفر داخل الأشياء واستنطاق إيقاعها بآليّات لا تتاح للكثيرين.

حظي الإيقاع الشعريّ على نحو خاصّ بعناية كبيرة من لدن الباحثين والنقّاد المشتغلين في حقل "نقد الشعر"، إذ ظلّ هذا العنصر أساسيّاً وجوهريّاً وفاعلاً ومهيمناً وطاغياً في فضاء القصيدة العربيّة بوصفها قصيدة "غنائيّة" بالدرجة الأولى، ولعلّ صفة الغنائية تستلزم البروز والظهور الإيقاعيّ العالي كي تحقّق جوهر صفتها، لذا نجد أنّ أغلب الشعراء المجدّدين ممّن يضيقون ذرعاً بهيمنة الصفة الغنائيّة؛ نراهم يجنحون نحو الدراميّة والسرديّة والملحميّة والتشكيليّة وغيرها من أساليب التعالق والتفاعل مع الفنون الأخرى، وذلك لإنقاذ شعريّاتهم من زخم الإيقاع الغنائيّ الذي يأخذ قصائدهم إلى منطقة مليئة بالأشباه، فكان النزوع نحو التفرّد والخصوصيّة متمثلاً بالقدرة على التخفيف من ضغط الغنائيّة؛ عن طريق البحث عن سبل إيقاعيّة مغايرة لمغادرة السرب والطيران في نسق آخر مختلف.

كان "الوزن الشعريّ" المرجعيّة الإيقاعيّة الأولى لهذه القصيدة بِحُكم هيمنة البحور الشعريّة على حركتها الإيقاعيّة، لأنّ البحر الشعريّ يقوم على قواعد وقوانين وضوابط لا يمكن العبث بها كي يستقيم الوزن بعيداً عن أيّ خلل عروضيّ، وهو ما سُمّي اصطلاحاً "الإيقاع الخارجيّ" المتضمِّن سلامة التشكيل العروضيّ للقصيدة؛ حين تلتزم ببحر شعريّ واضح المعالم تتقيّد به وتستجيب بدقّة لأعرافه الإيقاعيّة تحت سلطة ما يسمّى "التفعيلة"، فلكلّ بحر شعريّ تفعيلاته المختلفة عن البحر الآخر؛ وثمّة ترخّصات عروضيّة تمنح الشاعر فرصة للحركة الإيقاعية المغايرة خارج ما يُصطلح عليه "التفعيلة الكاملة"، لتقديم مرونة إيقاعيّة داخل فضاء البحر الشعريّ بتقاليده الصارمة غير القابلة للخرق. تحتوي "قصيدة الوزن" على جملة من المغريات تجعلها حاضرة في المشهد بحكم قوّة تأثيرها الغنائيّ في مساحة الاستقبال، وبحكم انضباطها الإيقاعيّ داخل حدود التفعيلات، بما يوفّر لها سهولة كبيرة في بناء إيقاعها الخارجيّ ليمارس فعله في استجابة المتلقّين السريعة، لذا فهي تمثّل الخيار الأيسر للوصول إلى الجمهور وإلهاب حماسه عن طريق صورة العلاقة بين الصوت والسماع، على الرغم من أنّ الفضاء الثقافيّ والمزاج الأدبيّ والرؤية الفكريّة وغير ذلك من المتغيّرات الاجتماعيّة والحضاريّة الكبرى في الحياة؛ أسهمت عميقاً في تغيير خريطة الأشياء على نحو كليّ تقريباً، ولم يعد هذا التفاعل الإيقاعيّ بين الصوت والأذن قائماً إلّا في أماكن مغلقة يقلّ فيها الأوكسجين كثيراً.

لا تسمح "قصيدة الوزن" ببروز فضاء بصريّ يولّد إيقاعاً خارجاً عن نواميس الإيقاع التقليديّ؛ القائم على السماع استجابة للإلقاء في رتابة محسوبة سيمتريّة لا تلعب ولا تغامر ولا تتجاوز، بل على العكس تدين بالولاء المطلق للقانون العروضيّ الصارم الذي يحيل الخلل الإيقاعيّ على نوع من الأعمال الجاهلة أو التخريبيّة، ويطرد الكلام مباشرة خارج مساحته ويحرمه تماماً من نعمة الانتماء إلى فضاء الشعر، وبذلك يعزل الفضاء البصريّ القرائيّ عزلاً تاماً ويحقق اكتفاءه الإيقاعيّ بموسيقا البحر الشعريّ وتفعيلاته المنتظَمة، فلا شعر عندهم بلا وزن مهما علا شأن الكلام وارتفعت بلاغته في سلّم الإبداع. حاولت "قصيدة التفعيلة" -بوصفها الثورة الأبرز في تاريخ الشعريّة العربيّة الطويل على نموذج "قصيدة الوزن"- أن تقدّم رؤية جديدة ومفهوماً جديداً للشعر، وانفتحت على مسارات مغايرة أنتجتْ إيقاعاً شعرياً مختلفاً؛ حين أزاحت ما يصطلح عليه "البيت الشعريّ" المنضبط على وفق إيقاع شديد القيد لا يمكن التلاعب فيه، وراحت تنوّع في حركة تفعيلات البحور -ولا سيّما الصافية منها- لأجل توكيد حساسيّة المفهوم الجديد، والسعي إلى فتح فضاءات جديدة يتحرّك فيها هذا المفهوم بحريّة أكبر؛ بحيث يكون قادراً على التجديد والتطوير باستمرار، ومن هذه الفضاءات التي أُتيحت لقصيدة التفعيلة الفضاء البصريّ القادر على توليد إيقاع آخر؛ بعيداً عن إيقاع التفعيلة العائد على البحر الشعريّ الوزنيّ، بحكم طريقة توزيع سواد الكتابة على بياض الورقة، إذ يكون الشاعر داخل نظام القصيدة العربيّة التقليديّ مضطرّاً إلى التشكيل القائم على وحدة البيت الشعريّ؛ في نسق بصريّ موحّد وحادّ وشديد الهيمنة والتمركز من أوّل بيت في القصيدة إلى آخر بيت فيها، ليكون الإيقاع الشعريّ العام واحداً في سياق كونه الشعريّ المشدود بقوّة إلى نظام التفعيلة.

يمكن أن نجد في "قصيدة التفعيلة" سطراً شعريّاً كاملاً مؤلّفاً من مفردة واحدة، أو حتّى نصف مفردة، في حين يجيء سطر آخر فيه خمسة ألفاظ أو أكثر، بحسب طبيعة الدفقة الشعوريّة في كلّ سطر من أسطر القصيدة، على نحو يسمح بتلوين بصريّ على مساحة الورقة تتموّج فيه الألفاظ تموّجاً شعريّاً مستجيباً لحركيّة التجربة، وعندها لا يعود الإيقاع التفعيليّ وحده القادر على إنتاج بنية إيقاعيّة للقصيدة، إذ يتدخّل الإيقاع البصريّ كي يكون شريكاً فاعلاً له موسيقاه التي قد تتفوّق على إيقاع التفعيلة  جماليّاً.

تجترح "قصيدة النثر" مناخاً شعريّاً خالياً تماماً من الهواء المستعار المأخوذ من فضاء التفعيلة والبحر الشعريّ، وتستبدل به فضاءً آخر يعوّل على الإيقاع البصريّ الحرّ بأشكاله وتنويعاته المختلفة، إذ يستثمر الشاعر مساحة البياض الورقيّ استثماراً شاملاً لاستيلاد إيقاعات بصريّة مستمدّة من شبكة أساليب، تمنح الفضاء الشعريّ طاقات خلّاقة لحركات إيقاعيّة تعتمد على مهارة الشاعر وحُسن إدارته لفعاليّاته الشعريّة، بما يُلقي على عاتقه مسؤوليّة تشكيليّة كبيرة تفرض عليه إقناع مجتمع التلقّي بشعريّة كلامه وإيقاعه؛ من غير الاستناد إلى مقوّمات خارجيّة كالبيت الشعريّ أو التفعيلة لتوليد الإيقاع  المطلوب.