ميلان كونديرا: أنا تبعتُ درب كتبي

ثقافة 2024/04/04
...

 طالب عبد العزيز


كتب ميلان كونديرا (1929 - 2023) روايته (المُزحة) بلغته الأم (التشيكية) وفيها نقدٌ لنظام الحكم الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا، حيث كان، ولم يكن متفائلاً بها، فقد كان حديثَ الاقامة بفرنسا، التي وصلها قبل سنوات، لكنَّ المخطوطة ستصل إلى الشاعر لويس أراغون، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الفرنسي، والذي يكبره باثنين وثلاثين عاماً. في العام 1967 وبعد تعديلات بسيطة تصدر طبعتها الأولى باللغة التشيكية في براغ، لينال عنها جائزة الكتاب والادباء التشيك، وليباع منها 120 ألف نسخة، وفي خريف العام 1968 تستعد دار غاليمار لطباعة نسختها الفرنسية، وفي الليلة الفاصلة بين 20 و21 تحتل الدبابات السوفيتية براغ، وبذلك ستكون الرواية قد دخلت منطقة السياسة التي ظلَّ كونديرا ينفيها عن كتاباته.

 في كتاب أريان شومان (السيرة غير المعرفة-لميلان كونديرا) الذي أصدرته دار ترياق من الرياض بالسعودية، وهو مجموعة مقالات نشرت في اللوموند يكتب كونديرا"تريدُ أنْ تعرفني! إقرأني" هذه جملته، التي أراد بها تعريف رواياته، وطريقته في التفكير والكتابة، ولم يعرّف نفسه ككاتب منشق، فقد انكر ذلك في أخريات أيامه، وكان يرى أنَّ الشخصية الانسانية عصيَّة على الفهم من خلال الفلسفة، وأنّ حقل الرواية قادر على فهمها أو طرحها.

معلوم أن كونديرا حجب نفسه عن العالم والصحافة، وأحاط نفسه بعزلة، شبه تامة. الكاتب الذي تصطفُّ أمام مدخل منزله سبعة عشر كتابا له بتسع وأربعين ترجمةً، والمنتمي إلى القلة المناهضة للنظام، لم يشأ ان يكون مادةً في السياسة، فقد كانت زوجته تصيح بالمصوّرين أنْ لا لقطات مصورة على منشور الاحد السياسي. "كونديرا مثل هندي أحمر يخشى انْ تُسرقَ روحُه". ترى هل كتب رواياته خارج الهم السياسي؟ قطعاً لا، لكنه وعبر وعيٍّ تاريخي وفلسفي استطاع أنْ يتهكم ويسخر من النظام، الذي كرهه، متيقناً بأنَّ نقد الانظمة الدكتاتورية المباشر هو كمين يُنصبُ للكاتب، وأنَّ انظمة كهذه لا تتحمّل فكرة الضحك والسخرية، وهنا كان عليه أن يقدم الحلم بالاشتراكية بوصفه مزحة، مع وعيه بأنَّ كتابةً كهذه لا ينبغي أن تتجاوز الحدود الصارمة للنظام.

انتمى كونديرا للحزب الشيوعي التشيكي وهو في سن المراهقة، وكان منسجماً مع فكرته حتى انه كتب قصائد ممجداً ستالين فيها، وربما كان يعتقد بأنَّ الشيوعية حلماً سيتحقق. 

لكنه، وبعد (المُزحة) وأحداث العام 1968 أدرك بأنَّ الرواية لا تفحص الواقع بل الوجود، فكانت نقطة التحول عنده، مع أنَّ الهاجس السياسي ظلَّ ناشباً مخالبه في روحه، إلا أنه لم يكشف عنه بالدم واللحم الممزق، كما يفعل الكتاب المتعجِّلون على صفحات أعمالهم، إنما بالسخرية مما هو قائم وخانق وممسك به. ففي محاضرة له عام 1980 قال لطلابه: لم تفهموا في فرنسا أنَّ كافكا ليس مؤلفاً ماساوياً، إنه كاتب كوميدي. عليكم أن تضحكوا مع كافكا ! تذكّروا الصفحات الاولى من (المحاكمة): ظهر رجلان في الصباح على "سريرك" لإبلاغه بانَّه متهم. المشهد سخيفٌ ومضحك، وعندما قرأ كافكا الفصل الأول هذا على اصدقائه ضحكوا جميعاً.

لم يلق كونديرا ما كان يحلم به في فرنسا، فهو لم يحصل على الجنسية الفرنسية قبل آب/ أغسطس 1981 فقد وقف جيسكار ديستان الاشتراكي حائلاً دون تجنيسه، حتى العام 1979! ومع ذلك لم تستطع قوى المعارضة التشيكية من اجتذابه، ولم يتماه الكاتبُ المناهض للشيوعية مع النظام الرأسمالي؟ كما لم يكن معارضاً له أيضاً. يقول شومان بأنَّ الكاتب الذي تعلَّم المكر في براغ عندما كان مراقَبا هناك، واصل اللعبَ والقفز  في فرنسا:"هل أنت شيوعي ياسيد كونديرا؟ لا أنا روائي. هل أنت مع اليسار أم مع اليمين ؟ لا هذا ولا ذاك، أنا روائي. وهكذا رفض كونديرا التماهي مع النظام والمعارضة في باريس، وظلَّ شخصاً غير منتم، ولا منحاز إلا لفنّه القائم على المزحة والتهكم واللعب. وحين منح الجنسية قال "أصبحتْ فرنسا وطنَ كتبي، وأنا تبعتُ درب كتبي".

يقول كونديرا لـ (سالمون) الذي كان يعمل إلى جانبه في كتاب فن الرواية "أنت تعلم بأنّ 50 بالمئة من موهيبة الكاتب هي استراتيجيته وتقنياته". النجاح غير المتوقع لرواية (المزحة) بطبعتها التشيكية وشفاعة سحق ربيع براغ بالاحتلال الروسي عام 1968 لها جعلت منه كاتباً كبيراً، هو الذي لم يشأ أن يجعل من هذه وتلك رافعات لمجده الروائي، إذا ما قرأنا في بعض النقود من يقلل من أهميته روائياً. يكتب سوليرس مقالاً عن يومياته المكتوبة بالفرنسية"عالم النمر" بأنها كانت سطحيةً إلى حدٍّ ما.

"ليس لكونديرا أتباع، لكن معجبين" هكذا يقول فرنسوا فيتراني. بالقدر الذي عمَّق المنفى الهوّة بينه وبين التشيك، ومع التقدم في السن استحوذ عليه الحنين إلى الوطن الام، لكنه لم يعد اليه، ثم أنَّ فرنسا بغوايتها ابتعدت عنه، وهكذا، ظلَّ معلقاً بين باريس وبراغ، يردد بيت الشاعر التشيكي فيكتور ديك عن مفهوم الوطن: "إذا تركتني فلن أموت، وإن تركتني فسوف أموت".