جدليّة الإبداع والأخلاق

ثقافة 2024/04/07
...

  باقر صاحب

 على الرغم من أن هناك من يعتبر الأمر بديهياً؛ أي أن يكون هناك تطابق بين نصوص المبدعين ومواقفهم في الحياة العامة وسلوكهم الأخلاقي، تطابق لجهة الانتصار لقيم الحق والعدالة والتحرّر من ربقة الظلم والعبودية، والوقوف ضد النزعات الفاشية والعنصرية والدكتاتورية. إلا أن هناك من لايزال  يثير الأمر، بوصفه بذرة خلافٍ متجدد، فهناك ممن يرون بضرورة الفصل بين نصّ المبدع ومواقفه في الحياة العامة والسياسية، ومن ضمنها انتماءاته الحزبية، رافعين شعار النص أولا، كمعيارٍ لتقييم المبدع، وأن إضافاته الإبداعية، للمنجز الثقافي في بلاده، هي الفيصل في تقييم شخصيته، أو حكم التاريخ عليه بعد رحيله، بغضّ النظر، إن كان متحيّزاً لطبيعة النظام السياسي في بلاده، أو متطرّفاً، أو منساقاً للنزعات العنصرية والطائفية أو الفاشية.

 على العكس ممّن يرون بضرورة التطابق الإيجابي بين الإبداع والقيم الأخلاقية، أي التطابق الإنساني بين النصّ والسلوك الاجتماعي المتّزن والموقف السياسي المناصر للناس وحقوقهم وحرياتهم، وعلى وفق ذلك يؤمن الكاتب والمفكر  الأردني  ابراهيم أبو عواد، بهذا الطرح، إذ تناول بالنقد، في مقالةٍ له نشرها موقع ميدل إيست أونلاين، الشهر الماضي، موقف الشاعر والناقد الأميركي عزرا باوند (1885 - 1972) في هذا المضمار، باوند هو رائد الحداثة الشعرية الغربية، ويكفي من ذلك أن الشاعر والناقد الإنكليزي من أصل أميركي ت. س. إليوت، أهداه قصيدته "الأرض الخراب" التي تُعدُّ قصيدة القرن، مذيّلاً له إيّاها بعبارة "إلى الصانع الامهر"، إذ يرى أبو عواد أنّ باوند ارتكب خطيئةً بدعمه للفاشية، ومساندته المفضوحة لموسوليني، وتكريسه موهبته الشعرية ومكانته الأدبية لدعم العنف والإرهاب، وإيحاد مبرٍّر أخلاقي لهما، واصفاً نموذج باوند في العلاقة بين الإبداع والأخلاق، بأنّه "يظهر الصِّدَامُ الحَتْمِي بَيْنَ الوَظيفةِ الجَمَالِيَّةِ للنَّصِّ الشِّعْرِيِّ الإنسانيِّ الذي يَحْفَظ كَرامةَ الإنسانِ ويُحَافِظ على شُعُورِه وأحلامِه وتاريخه وحضارته، وبَيْنَ الوظيفةِ الأيديولوجية للفَاشِيَّةِ التي تَقُوم على القتلِ والكَرَاهِيَةِ وتَصفيةِ الخُصُومِ وإلغاءِ الحُرِّياتِ الفرديةِ وتَدميرِ مُستقبلِ الإنسانِ وإقحامِ الدُّوَلِ في حُرُوبٍ دمويّةٍ عبثيّة".
انحياز كبار المبدعين والكتّاب للشر، المتمثّل في دعم العنف والارهاب والحروب، يفسّره الأكاديمي والكاتب السوري عدي الزغبي، على نحوٍ منطقيٍّ نوعاً ما، إذ يرى أنَّ الإنسان عبارةٌ عن ملكاتٍ عقليّةٍ متعدّدة، تنمو بيولوجياً منذ الولادة، ربّما تتكامل أو تتقاطع، لكنّها تظلُّ متمايزةً عن بعضها البعض، فربّما تبرز عند مبدعٍ ما الملكة الإبداعية، وتضمحلُّ عنده الملكة الأخلاقية، بالنتيجة، يبرز ميل هذا المبدع إلى الشر، يقول الزعبي في مقالته "لماذا ينحاز بعض المثقفين إلى الشرير؟" المنشورة في مجلة رمّان" الثقافية، بأنّ" الانفصال بين الملكات العقلية المسؤولة عن الثقافة والإبداع بأشكالها المختلفة، وبين الملكة الأخلاقية، هو الأكثر إثارة للجدل: قد يكون المبدع منحطاً أخلاقياً، وضيعاً، تافهاً؛ أو قد يعيش في عالمه الخاص، لا يفهم الأخلاق أو السياسة على الإطلاق، ويقتصر عالمه على مجاله الإبداعي، والقليل من الحياة الاجتماعية الضرورية".
ويذكر الزعبي أمثلةً عن المواقف الأخلاقية للمبدعين عبر التاريخ، من المتنبي، بوصفه كان متملّقاً لكلّ أهل السلطة، مغروراً نرجسياً عنصرياً، إلى الرسام الفرنسي إدغار ديغا، الذي كان يحتقر النساء.
ونذكر نحن أيضاً في هذا المجال الكاتب والروائي الألماني غونتر غراس ( 1927 - 2015)، الذي اعترف عام 2006، بأنّه كانَ في صباه عضواً لفترةٍ محدودةٍ في فرقة الوحدات النازية الخاصّة أس أس (SS)، وأنّه التحق طواعيةً في سن الخامسة عشر بشبيبة هتلر.
وفي سنّ السابعة عشر استُدْعِي للعمل ضمن فرقة الوحدات النازية الخاصة وارتدى زيّها، حيث أنّ تلك الوحدات جهاز الحرس الخاص الذي يتولّى حماية الزعيم النازي  أدولف هتلر، وقد نُسبت لهذه الفرقة  أعمالٌ وحشيَّة.
ويُذكر بأنّه  تمّ حظرها بعد هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وسقوط النازية، فضلاً عن أنها  أدينت رسمياً بكونها "منظمة إجرامية" في ما عُرفَ بمحاكمات "نورنبيرغ".  
التقييم الاخلاقي للمبدع، أصبح يُنظر إليه بأنّه تسييسٌ للموقف من الثقافة، ومن ثمَّ الإبداع، لاسيّما أنّ هذه الجدلية القديمة بين الإبداع والأخلاق، عادت إلى الواجهة، في كلِّ بلدٍ عربي، حصل فيه تغييرٌ للنظام السياسي، بما سُمِّي آنذاك الربيع العربي، حيث يُجرى تقييمٌ جديد، من قبل أهل الفكر والثقافة، لإبداع الحقبة السياسية السابقة، على سبيل المثال، ما حدث في العراق، في التاسع من نيسان عام 2003، حيث سقط في ذلك اليوم، النظام الدكتاتوري في العراق، إذ ذاك جرى فرز من آزر النظام، وامتدح زعيمه المقبور، وطبّل لحروبه وسياساته الرعناء، هذا الفرز جاء، بحسب  مُسمّياتٍ  مدوّنةٍ في تاريخ الثقافة العراقية، مثل " شعراء قادسية صدام" و" شعراء أمّ المعارك".
المآسي المتلاحقة التي عانى منها العراقيون، عبر سلسلة حروبٍ وحصار، أحدثت انقساماً  بين المثقفين، لجهة أنَّ كلَّ من أيّد ذلك النظام في كتاباته، اعتُبر بالضدِّ من معاناة الناس ومشاعرهم وتطلّعاتهم، وبالضدّ من الصورة المألوفة عن  الأديب بأنّه ضمير عصره والمعبّر عن تطلّعات شعبه.
لكنَّ هناك من يقول بضرورة الفصل بين المنجز الإبداعي والموقف الأخلاقي، لا سيّما أنَّ الأخلاق تُعَدُّ قضيَّة نسبيةً، لها ضوابطها بحسب الشرائع السماوية والمعارف الوضعية، والخروج عنها في العصر الحديث، يعتبر انغماراً في فوضى لا أخلاقية.
الأمثل، بالنسبة إلى تلك الجدلية المتجددة، في كلِّ عصرٍ وأوان؛ أن يُنظر إلى المبدع برؤيةٍ وضوعية، تقيّم نتاجه الإبداعي شكلاً وبنيةً ومنجزاً، كما يتمُّ، أيضاً، تقييم موقفه الأخلاقي والسياسي من جميع الجوانب، شرعيةً ومعرفيةً، من جهةٍ أخرى.
الكاتب السوري عدي الزعبي، يقيّم الشاعر والناقد والأكاديمي المفكر أدونيس، في هذا الاتجاه، ويأخذ على نقّاد أدونيس خلطهم بين تجربته الابداعية بوصفه علامة كبيرة في ريادة الشعر العربي المعاصر وتطوّره، وموقفه من الثورة السورية، وبحسب الزعبي يُعدُّ شعره "ثورة حقيقية، سواء أكنّا من المعجبين بهذا الشعر أم لا".