الخطاط جاسم النجفي.. «فركات» قلم مميز

ثقافة 2024/04/08
...

 مرتضى الجصاني


بداية لا يمكن إحصاء كتابات وأعمال الخطاط الفنان جاسم النجفي، كما لا يمكن لأي باحث في مجال الحروفية أو الخط العربي بصورة عامة أن يتناول تجربته من خلال لوحة واحدة وتحليلها وتفسيرها وتأويلها على وفق منهج نقدي أكاديمي، لأنه خطاط يمتلك حسًّا فنيًّا عاليا يجعله يتنقل بين مشارب الخط وتجويداته الفنية، فهو خطاط مجود، بمعنى أنه لم يتقيد بالقواعد الخطية الصارمة مع أصالته ومحافظته على أصول الخط العربي، بل جعل الخط سهلا وممتنعا في الوقت ذاته.

وهذه أعلى مراتب الحس الفني. من هنا أجد ضرورة أن أسلط الضوء على أهمية تجربته منذ بدايتها وحتى الآن وأناقش عبر قراءة فنية لا تخلو من البعد التأويلي وتبتعد عن البعد السردي للسيرة الذاتية كما تبتعد عن القراءة المعتادة للوحة الخطية، بل وأحاول أن أعيد ترتيب هذه التجربة المتميزة بقراءة الخطاط العارف والمريد المحب لشيخه. 

فالنجفي أستاذ أجيال كثيرة من الخطاطين، وهو يدرسه كأنه يؤدي فرضاً دينياً أو صلاة فتجده مستمتعا وغارقا في حروفه، مبتعدا عن ضجيج العالم حوله، أقلامه ومحبرته أقصى ما يحمله معه كي يجعلنا في حالة تأمل لا نهاية لها. 

كيف لا وهو ابن مدينة أمير البلاغة وإمام الزاهدين علي عليه السلام. 

يمكننا أن نطلق على حروف النجفي مصطلحات ومسميات كثيرة، لكنها أقرب ما تكون للسلاسل الذهبية، لأن الجملة الخطية كالجملة الموسيقية لابد من إيقاع داخلي يمنحها جمالاً لا نهائيا كما يمنحها بعدا بصرياً مريحا لعين المتلقي.

هكذا هي حروف وتراكيب النجفي كما نراها في أشرطة وافريزات المراقد المقدسة والجوامع والمدارس الدينية التي خطها، من دون الاعتماد على الأساليب الحديثة في عمل اللوحات الخطية من عمل القوالب وتكرارها، أو وضع التزيين، بل على العكس تماما كانت خطوطه حية وليدة وقتها لم يسبقها سوى تخطيطات خفيفة بقلم الرصاص تعطي انطباعا وفكرة عن مسار الحرف وحجمه وهيكله والتداخلات الممكنة والتي يراها مناسبة جمالياً. 

كتب النجفي كثيرا لدرجة لا يمكن إحصاؤها منها الفني، والتجاري، وحتى التجاري منها لم يكن بمعنى الكلمة، بل كانت أقرب للعمل الفني المتحفي، وبالتالي هناك كم هائل من الأعمال التي لم يسعفنا الحظ في مشاهدتها وخصوصاً تلك التي كتبها في عقد السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وحتى العقد الأول من الألفينات كانت أعماله تزخر بالحيوية والحركة في الكتابات الارتجالية، وكتابة المشق.

والمتابع لكتابات النجفي سيجد أن روح الخطاط في كل حرف يكتبه، وكأنه الحروف نسج من حياكة أنامله ينسجها على وفق دراية فنية عالية ومستوى أداء مرهف جميل.

من المعلوم أن النجفي لم يتتلمذ على أحد سوى كراسة قواعد الخط العربي لعميد الخط العربي هاشم البغدادي، الذي يعدها المصدر الأساسي له، كما لم يلتق النجفي مع أستاذه البغدادي، بل اقتصر على المراسلات بينهما، ولم يلتق أيضا بالخطاط حامد الامدي، كذلك الشهادة الموقعة من الخطاط داود بكتاش والخطاط محمد أوزجاي التي تؤكد على اجتماع السرعة الاتقان هي شهادة صداقة وإعجاب وليس إجازة أو شهادة من أستاذ -كما أكد ذلك النجفي نفسه- لأنه سبقهم بسنوات كثيرة في مجال الخط العربي وأصوله، لكنها التفاتة مهمة حول التركيز على جمع السرعة والاتقان في خطه، فهو فعلاً يبدو أكثر سرعة من الخطاطين الآخرين في الكتابة، كما أن هذه السرعة لم تؤثر على مستوى الخط الذي يكتبه، فتخرج من أنامله حروفا بغاية الدقة والجمال. وأقول إن حروف النجفي جميلة -وأعني بهذه الكلمة ما تعنيه من معنى- فكتاباته تملك شيئا خفيا لا يمكن تفسيره، وجمالاً لا يمكن تحديد مكامنه، فهي إضافة لمطابقتها للنسبة الذهبية في أصول الخط، لكنها ساحرة في التفاصيل الصغيرة، وفي حركة القلم التي لا يشعر بها إلا من امتلك بصيرة عالية في الخط العربي، فيتكشف دفقاته الجمالية، وهذا ما يجعلها ذو خصوصية يمكن تمييزها حتى بدون وضع توقيعه تحت كتاباته. 


الذوق في أعماله

والمقصود من الذوق هو مجموعة الأشياء الحسية البصري والمادي، وهو ما ارتبط بالتذوق والحس غير الملموس، وما سار عليه أهل العرفان في مجمل الأمور الذوقية. 

وأعتقد أن النجفي قد أضفى مسحة عرفانية في مجمل أعماله لا يمكن وصفها أو تحسسها إلا ذوقيا.

ومن المعلوم أن التميز في مجال الخط العربي هو من الندرة التي تحتاج مطاولة وتمرينا طويلاً وعلما بتشريح الحرف يتكون نتيجة إغناء العين بتمرين النظر على نماذج متعددة لخطوط الأقدمين، وإعادة إنتاجها بشكل يتفق مع شخصية الخطاط، وهذا ما فعله الخطاط النجفي فالحرف عنده وريث حرف الراحل هاشم البغدادي ويضيف عليه من روحه، فيخرج كامل المرونة متناسق الشكل جميل، يشعر العين بالارتياح التام لمنظره. 

والمرونة في الحرف لا تأتي من فراغ، بل هي نتيجة لتمرين طويل ودربة لليد حتى صار الحرف له رونق خاص يشبه صاحبه.  والذوق في الخط العربي يعني أن للخطاط ذائقة في كتابة الحرف، مما يجعل عين الخطاط صعبة الاقتناع في الحرف حتى يصل أعلى مستوى من الإجادة، يظهر هذا الذوق في “فركات” القلم الخاصة بالخطاط بحيث تؤثر جليا في الشكل العام للحرف سواء كان في اللوحة أو بشكله المفرد.