خطاب النسق الثقافي

ثقافة 2024/04/08
...

  رنا صباح خليل 

 

 تفرض الصيغة السيميائية لدالة عنوان رواية أستاذ الشهوة لفيليب روث، وترجمة اسامة منزلجي، ادخالها مختبر التنظير السردي بعد تفكيك تركيبتها اللفظية ومدلولها المعرفي، رغم أنها عبرت بوضوح عن فحواها بعد تبنيها وظيفة تعيينية أثبتها جيرار جينيت في أي عنوان لنص أدبي، ولكن ما يفرض علينا تفكيك العنوان جاء لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، وعليه فإنه يتكون من مقطع واحد في هذه الرواية جاء في اوله كلمة (استاذ)، التي أتت على صيغة اسم وهو لقب لمن يمارس تعليم علم أو فن. وقد تقلدته هنا الشخصية المحورية في الرواية وهو ديفيد كيبيش الاستاذ الجامعي للأدب في شمال نيويورك، الذي كان يُدرس الأدب لطلابه متأثرا بقراءاته الشاقة لكتاب كيير كغارد (إما/ أو) الذي يؤكد فيه قبوله الاكتمال، التي لا تستطيع الذات العاقلة أن تفكر فيه ابدا ومنه يتشعب اختباره للحب بشكله السامي وتوقه نحو المطلق، واختبار التواصل الفلسفي مع حوافز الارسال والاستقبال، واختبار صدى الآخر في اختلاف الاجيال مع حافز الوراثة وحافز الذنب المأساوي، اما دالة العنوان الثانية فهي لفظة (الشهوة)، وفيها تخصيص يحيلنا إلى تلك القوة والرغبة النفسية الشديدة والكامنة التي تدفع بالحواس إلى تلبية واشباع الغرائز، ومما يمكن تفكيكه من خلال لقائنا الأولي مع هذا العنوان الإحالة، على أن هناك معرفة بدائية بوضعها السطحي في اذهاننا عن الشهوة وتتضمن (الرغبة، اللذة، الاستمتاع، الجنس، الخطيئة، الزواج، المال، المرأة، الولد) وهناك معرفة جديدة عن الشهوة هي ما سيتيحه لنا مضمون الرواية.

يبني روث نزعته التحررية على الخطاب الجنسي مع الارتكاز إلى تحليل كل حركة وتصرف، بما يجعله معادلا موضوعيا للشعور بالمتعة والألم في الوقت نفسه، أي أنه يفلسف الشعور ويناقش بواطن النفس ومآلات نشوء الأحاسيس، وربطها بقاعدة تأسيسها في دواخلنا، عن طريق محاكاة ما قرأه بطله ديفيد من نصوص أدبية لتولستوي وانطوان تيشيخوف ودستوفسكي وشكسبير وكافكا وغيرهم، ممن كان يشرح أدبهم لطلابه وتحديدا اعمالهم التي تستحوذ بدرجة ما على الشهوة الجنسية، والتي كان ينتظمها في جلسات قرائية أثناء الفصول الدراسية، مع جعل غرفة الدرس الموقع المناسب بشكل اكثر من أي مكان لسرد تاريخ حياته الجنسية لطلابه.

لقد تجاوز روث في كتابته مختلف العوائق والمكبلات، بل نجح في جعلها مطية سياقية مهمة للكشف والبحث في المتخفي، ومن ذلك ازاحة الأطر الحاجبة للأنثى، وهو يصطاد تمردها ويحرق جسدها ويراقب صمتها ويحاول التعبير بكل جرأة عن كل ما يشغلها من قضايا قابعة في العمق، وهو ما يفسر استنطاقه لإليزابيث حبيبته، التي أحبها هي وصديقتها بيرغيتا في وقت واحد، وفي مكاشفة قاسية ما بين الثلاثة سألها عمّا الذي رغبت فيه سرا أكثر من أي شيء آخر، وما هو الشيء الذي لم تجرؤ على البوح به إلا لنفسها ولم تتحل بالشجاعة الكافية مرة في حياتها لتنفيذه او لتتقبل حدوثه لها؟ وهو في ذلك كان يحاول أن يقرأ من اعترافاتها مدى جرأتها في البحث عن جسدها واستيعابها لرغباته، وكأنه جعلها عينة فحص عملية تثبت له الكثير من الافكار التي قرأها في كتب عن اللذة والجنس، وما سبيله إلى ذلك سوى فسح المجال الواسع للتخيل والافصاح عن خيبات الامل الحقيقية التي اصطدم بها عند انتزاعه لاعتراف حبيبته، لقد اتخذ من لعبته تلك طريقا يضيء عتمة الافصاح، ولذلك كان كثيرا ما يقارن بين ميول ورغبات فتياته اللاتي يغويهن بغية الفهم والكشف وهذا ما ساعده لكي يتلمس تلك الروح الفاعلة نحو الانطلاق والتحرر عند مارغيتا، التي وصفها انها تجرؤ على فعل أي شيء ومع ذلك هي عاقلة مثله تماما وبارعة وثابتة وفاسقة شبقة وهي النوع الذي يرغب به، ان الكتابة من هذا المنطلق جاء تلبية لنداء الحضور للشخصية، التي اتخذها عينة لبحثه وهو ما يفرض فرضياته من خلال الجسد وتمثلاته عبر النص بما يتيح الغوص في اعماق الشخصيات ولذلك كان يقدم وصفا للحالات الجنسية بطريقة اكثر سحرا وترميزا ودلالة، في محاولة منه للقبض على المعاني الهاربة او المغفول عنها بصفة صريحة وهو في كل ذلك يعود بنا لمناقشة تشاؤمية كافكا، فيما يطرح أو هو  يستلهم الاوهام الرومانسية  لتيشيخوف ومنها الوصول إلى أن إقامة أي علاقة حميمة، ليس لأنها بالضرورة تؤدي إلى السعادة بل لأنها ضرورية وأن الأساليب الشكاكة والبغيضة والنبيلة والمرتابة عند تيشيخوف ما هي الا محاولة نساء ورجال عصره الوصول للإحساس بالحرية عن طريقها، وفي مناقشاته تلك لم يقتصر روث على شخصية واحدة أو شخصيتين، بل كان يدعم عمله بتعدد الشخصيات، فقد جعل من ديفيد مديرا للعاهرات بالفطرة او مروضا لعشيقاته واحيانا كان يصفه بالمغتصب الغر، فقد تزوج مرتين كانت الاولى من هيلين الشابة المثقفة والمتهورة، التي كان يصفها بأن موقفها من الحس السليم كموقف بيرغيتا من الطيش، وتزوج مرة ثانية من كلير التي كان يشعر بالثبات الانفعالي والنفسي معها، وهو ما دعاه للبقاء معها إلى نهاية الرواية، إن فلسفة الروي لم تقتصر على المكاشفات والاهواء فقط، وانما كانت تبحث عن ما هو ارفع من السعادة او التعاسة، ومن الرذيلة او الفضيلة بمعناها المعتاد، ولذلك لم يغفل الحديث عن التقصير الأخلاقي، مستعينا على ذلك بمؤلفين اثنين وهما (ماكبث) و(الجريمة والعقاب)، وناقش موضوع الجوع الروحي  وانهماك كافكا به، ولكنه كان دائم التساؤل مع كل علاقة يقيمها، لماذا لم يكن هناك مصدر للسعادة لديه؟ وفي تقييمه للتجارب لم يكن يغفل ما تقدمه له التجربة من معارف دلالية عن الحب والجسد ومقارنتها بالخبرات السابقة، ومن مجمل ما يقدمه يشير إلى أنه يقدم سيرة ذاتية للحياة الجنسية عن الشخصية المحورية وهي ديفيد كيبيش، ولكن لو نظرنا إلى العمل بمنظور فليب لوجون ميرو، فإننا لا يمكن اعتباره سيرا ذاتيا أو روائيا محض، بل يقع بينهما. 

ومن خلال الغوص في عالم روث نستطيع أن نصف هذا النوع من الكتابة بشكل عام على انه يندرج ضمن الكتابات التي تهتم بجوانب معتمة في حياتنا، يحاول تصوير رغباتنا القابعة داخلنا، وعليه فالكتابة هنا تشريحية لواقع نعيشه وطرق لأبواب المسكوت عنه في الثقافة الغربية، وليس ثقافتنا العربية فقط، كونه يناقش أحد أهم التابوات، وقد راعى الكاتب نقطتين أساسيتين هنا على اعتبار أن النص الروائي نص مفتوح، وبالضرورة ان يستقطب جغرافية قرائية أكبر من الاجناس التعبيرية الاخرى المكتوبة والنقطتين هما: جعل من موضوع الجنسانية موضوعا سرديا كليا، محاولا أن يجد توازنا بين موضوع الجنسانية وطموحات الانسان وهمومه الاخرى. وايضا لم يتجاوز مشاهد الوصف المهمة في الروي، وهو يقدم حلولا، وإن كانت غير نهائية بحكم أن التجارب الانسانية متعددة ومتداخلة، بمعنى أنه تبنى رؤية فلسفية تجريدية بلغة فنية راقية، تراعي ضرورات الصناعة الأدبية عند معالجته، لمثل هذه المواضيع، التي تكتسب حساسية لكلا الجنسين في طريقة البوح واسلوب الاستنطاق الذي اعتمده.