ياسين طه حافظ
في كتاب جين كازيز {أهمية الأشياء}، يرد: {فكرَ تولستوي في السمو فوق الوجود المادي على أنه ضرورة مطلقة}.
هذا التفكير حصل طبعا قبل تحوله. لم يكن يؤمن بالاله ولا بالحياة بعد الموت. ومع هذا التفكير أدرك أن ليست لديه المقدرة الفعلية على تحقيق السمو فوق الوجود المادي.
أراها فترة حرجٍ صعبة لاتخاذ قرار إذا لم تحدث انعطافة تغير المشهد وتمنحه رؤية ثانية.
فكرَ: إذاً، لا يمكن أن تكون حياته طيبة وهو يعيش في عالم متدنٍ ولا يستطيع السمو على ذلك العالم.
ومثلما أحرجه ذلك، أشقاه افتقاد حل. لقد حلَ فيه الحافز، أو أنه انتبه لجمالٍ، لسحرٍ في الافاق الأولى. لكن سحبته اليه الكنيسة من دون أن يدري وارتضى بالحقيقة الاخرى التي كانت لدى أسلاف غابوا فصارت بها حياتهُ تستحق أن يعيشها وأنه الأن أكثر اطمأنانا، وداخله أهدأ. ربما أدرك أيضا بأن افلاطون لا يزال يهدده أو يقلقهُ وأخيراً أنه لا يزال من دون رفضٍ حاسم يوقف تقاطع الأفكار.
وظل هكذا زمناً يعاوده التساؤل الصعب مثلما يعاودنا أحياناً، هل السمو غايةٌ من مرتبة كبرى وعليا؟ وهل نستطيع أن نتسامى، نحن الذين نجوع ونعرى، من وجودنا الأرضي الى ما هو أرقى وأسمى، الى ما هو أكثر نقاءً وطهرانيةً وبراءة؟ هل نستطيع التوقف أو الاستغناء عن التمسك بالحياة واللهاث وراء احتياجاتها، التي هي احتياجات عيش وأسباب بقاء؟
هنا نحن في البرزخ الصعب، أما أن نرتضي العيش وقوانينه ومتطلباته، وأما أن نجد سبلا للتسامي، معتقداتٍ روحية، زهداً في الحياة وما فيها ونأيا عن التفاصيل اليومية..
هنا أوجدت البوذية فرصة وأوجدت المسيحية فرصة وأوجد الإسلام، وانتهى المقصوفة والدراويش والزهاد إلى "ايجاد" ساعات طاهرة، بعيداً عن الوجود اليومي لدى العوام. بعض أشاروا إلى ساعات اللطف والسماح والتقوى والنأي عن المكروه.
كل تلك التي ذكرناها محاولات خيّرة لأن يجد الإنسان لنفسه فرصة سمو. وفيها احتفظ بالعقلانية العملية، فاقترب لما هو نافع وسليم وما يمنحه "سموّاً، وظل مع الحياة وظل إنساناً حياً ويتجنب ما يسيء للناس ولحياتهم وحياته. نوع من الاخلاص "المتوازن وهذه فرصة "متسامحة" يمكن ان يتمتع بها المتدينون وغير المتدينين. هي "للفضلاء" و"للمتقين". الوصف القرآني وصف دقيق وجميل. هم "يتّقون" أي يخشون الله فيما يسيء للناس وللنفس وللحياة. المشكلة أساساً أن الانسان كائن ضعيف وهو بائس أمام القوى المتحكمة بالكون والشراسة المتحكمة بوجوده اليومي. والرغبة في السموّ عن الوجود اليومي وظروف العيش ومطالبه، طموح لا يبدو معقولاً، أو هو طموح يظل من حصة الخيال. الواقع لا يسمح إلا بمدى تتفاوت ابعاده لكن يظل محدوداً. ومعروف تماماً أن القناعات، أو الرغبات العميقة التي تصبح معتقدات، هذه لم تأت الإنسان عنواً. هو من غيرها، يظل ضعيفاً وعاجزاً ومحتاجاً، ومنكسراً دون أمنيته. المعتقدات، على أنواعها سياسية أو دينية أو فكرية، تتوهج في داخل الإنسان وتضيؤه وتمنحه طاقة عمل وطاقة دفاع وطاقة مواصلة للوصول.
من هنا، أنا شخصياً، أحترم أصحاب الأديان كلهم وأصحاب المعتقدات كلهم والمؤمنين، بأن عملاً ما يقومون به من خير وصلاح للأحياء وللحياة هو مسعى من مساعي الإنسان للسمو. وكراهتنا للمواقف الزائفة والادعاءات الكذب، فلأنها بعض ما نريد التسامي عنه، وما ندعو "المؤمنين" الاطهار من أصحاب العقائد لتخليص الناس والحياة منه. الادعياء يعيدون الرداءات الى الأمكنة التي بالكاد تم تنظيفها منها. نفوس ملوثة تلك. لا نأمل بأن يطمحوا للسمو، ولكننا لا نريدهم من دون الاستقامة العملية، ونكتفي منهم بالتأبّي عن الرداءة. وهو هذا مسعى الإنسان من بدء الوعي الى يومنا وسيستمر، وأظن هذا قريباً من طريق السمو، لكنه عملي وواقعي أكثر، بعد أدراك أن طموحه غير واضح الحدود ولا واضحة امكانيات تحقيقه.
ثمة انتقالة واضحة من السماوي- والسماوي من السمو- الى الأرضي. والأرضي تعني كائناً حياً من الكائنات التي تعيش على الارض وما تنتجه، نباتاً أو مجتمعات.
مع كل استدراكنا وملاحظاتنا، يبقى مسعى الإنسان للسمو، مسعىً مثالياً طموحاً يصحبه البعد في النظر والرغبة العظيمة في الارتقاء لما هو أجلّ من اليومي. هو أساساً تطلّعٌ الى معنى آخر أفضل وأبعد مما اعتدنا عليه مما هو عابر، عابر تقلق أجسادنا وأعمارنا تهالكاً على نيله لننتهي باستهلاكه ثم لا معناه.
إن قصر المضمون على الفهم الديني لا يبعده أو يعزل عنه انتباهات لجوانب أخرى. في المسعى الديني، لـ "هدايته"، صدّ عن ضياع لا حدود له. عموماً نحن لا نريد أن نخسر هذا التطلع العظيم، هذه الحاجة القصوى للسموّ، لكننا لا نريد أيضاً هجران الحياة وازدراء العيش والعمل. بعبارة أخرى لنتسامَ على صغائر العيش، ولكن بلا استعلاء عن المادي، وأن لا ننسى إن الإنسان كائن أرضي قطع مسافة هائلة في الارتقاء وما يزال يريد ارتقاء أكثر (أو أعلى)، وما خفتَ ولن يخفت سطوع روحه بحثاً عن معنى. هو غير مستقر ولن يستقر. مع كل ايمان ينبثق قلق جديد.. فهل هي طبيعة الإنسان الكونية، أم أن هناك ما يدعوه دائماً لذلك؟