قيامة شكسبيريَّة معاصرة

ثقافة 2024/04/08
...

  عدنان حسين أحمد

ضيّف المقهى الثقافي في لندن الفنان والمخرج المسرحي والباحث الأكاديمي الدكتور فاضل السوداني في أمسية ثقافية وفنية انضوت تحت عنوان {العنف والفوضى.. قيامة شكسبيرية معاصرة} وهي مستوحاة في غالبيتها من كتابه الموسوم {العنف والفوضى المنظمة في مسرح شكسبير} الذي صدر عن دار الثقافة والإعلام في الشارقة عام 2015.

وقال الشاعر عوّاد ناصر  الذي أدار الندوة إن "السوداني صاحب سيرة فنية حافلة ومن الإجحاف اختصارها، لكن للزمن أحكاما وللوقت شروطا". كما نوّه ناصر إلى كتاب "تقابل الفنون" لإيتيان سوريو الذي يستنتج من خلاله أنّ "الفنون تتقابل، وتتجاور، وينهل بعضها من البعض الآخر" وأنّ سوريو قد استعار عبارة من فكتور هوغو يقول فيها "الريح هي الرياح كلها" فحوّلها سوريو إلى "الفن هو الفنون كلها"، ثم أشار إلى المحاور الرئيسة التي سيتحدث عنها المُحاضر الذي حلّ ضيفًا عزيزًا بين أصدقائه، الذين لم يلتقِ بعضهم منذ ثلاثين أو أربعين سنة. 

أعدّ المخرج السينمائي علي رفيق مقطعًا جميلاً من مسرحية "النخلة والجيران" التي ظهر فيها السوداني ممثلاً يجسّد دور "محمود ابن الحولة" وقد بدا مُقنعًا جدًا وقادرًا على شدّ انتباه المتلقي ولفت عنايته وانتباهه علمًا بأن فاضل السوداني قد اشترك بعدد من المسرحيات مثل "البستوگة" و"العادلون" و"الطريق" و"عرس الدم" و"الخرابة" و"القربان" قبل أن يحمل عصا ترحاله ويتوجه صوب بلغاريا، ليواصل دراسته العليا ويحصل على شهادتيّ الماجستير والدكتوراه من أكاديمية الفنون في جامعة صوفيا قبل أن يستقر به المقام في كوبنهاغن ويكرّس حياته للإخراج المسرحي والبحث الأكاديمي في الفن المسرحي على وجه التحديد. كما ساهم الدكتور خالد أمين، وهو أستاذ الأدب الإنگليزي في جامعة عبدالمالك السعدي ورئيس المركز الدولي لدراسات الفرجة في المغرب في مداخلة قيّمة وصف فيها كتاب "العنف والفوضى المنظمة في مسرح شكسبير" لفاضل السوداني بأنه "من أبرز الكتابات المعاصرة حول شكسبير، إذ حاول أن يرصد مجموعة من الحالات والمواقف والمَشاهد في مختلف نصوص شكسبير ويحللها بطريقة فنية وفلسفية تمكِّننا من التوغل في متاهات النصوص والشخصيات الشكسبيرية".

استهل الدكتور فاضل السوداني محاضرته بالحديث عن مسرحية "النخلة والجيران"، التي عرض المخرج علي رفيق مقطعًا منها ليحيط الحاضرين علمًا بأن السوداني قد بدأ حياته الفنية، ممثلاً إضافة إلى اهتماماته الأخرى في الشعر والنقد الأدبي قبل أن يختص بالإخراج والبحث الأكاديمي الرصين. كانت فرقة المسرح الفني الحديث في أوائل السبعينات في أوج نضجها الفني والفكري وكانت ملتزمة بقضايا الشعب. 

وقد جمعت الفرقة في حينه أناسًا من صفوة المجتمع الفني في العراق وكانوا يتحملون تكاليف العروض المسرحية في بعض الأحيان. كانت الجهات الأمنية، بحسب السوداني، تُزعج أعضاء الفرقة المسرحية، وكان بعض العناصر الأمنية يحضرون العروض المسرحية ويتلفظون بكلام بذيء على الممثلات الرائعات أمثال زينب وناهدة الرمّاح وفوزية عارف وغيرهن الكثير ممن يتعرضنَ للإهانة، وهنّ واقفات على خشبة المسرح التي يقدّسنها إلى حدّ العبادة. في عام 2011 عاد السوداني إلى بغداد بعد مرور 35 عاما من الغربة والعيش في المنافي الأوروبية وحينما ذهب إلى مبنى الفرقة وجده قد تحوّل إلى مكب للنفايات، فانخرط ببكاء حار لما ألمّ بهذا المكان الذي يبجّله الفنان والمثقف في أضعف الأحوال.

أثار السوداني سؤالاً مهمًا مفاده: لماذا شكسبير معاصرنا؟ وحاول قدر الإمكان الإجابة عليه لأنّ  هذا السؤال الذي يتكلم عن زمنه استطاع عبور الأزمنة حتى وصل إلينا ولامَسنا وكأنه ابن اللحظة الراهنة. يعتقد السوداني بأنّ أهم شيء كان يمتلكه هو "الرؤية والملاحظة" اللتين كان يفتقر إليهما معاصروه. توقف المُحاضر عند مصطلح  Aporia  أو "السقطة"  التي تعني بالإيطالية "تناقض داخلي غير قابل للحل أو انفصال منطقي في النص أو الحجة أو النظرية" ولكن الباحث يتوسع فيها ويقول بأنّ السقطة هي "المفارقة الملتبسة والغامضة التي تفاجئ وتغري البطل وتشوّش عقله وتحوّله إلى كائن مهووس لتحقيق سقطته حتى نهايتها (أو تكامله الذاتي) بعد أن تتلبسه الأوهام"  ويضيف بأنها الفعل الواعي والمقصود الذي يقوم به البطل من أجل الوصول إلى نهايته. يعتقد السوداني أنّ كل دكتاتور عربي أو عالمي يحب شكسبير ويكرهه في آنٍ واحد، فالدكتاتوريون يحبونه لأنه يقدّم لهم كل وسائل التعذيب، ويكرهونه لأنه يكشف هؤلاء الطغاة والمستبدين. ويذهب السوداني أبعد من ذلك حينما يعتقد بأنّ شكسبير قد أعاد كتابة التاريخ برؤية معاصرة. يرى السوداني بأنّ ريتشارد الثالث يشبه كل الذين نعرفهم من الطغاة والمستبدين وخلال السنتين اللتين حكم فيهما إنگلترا حوّلها إلى كابوس مرعب، كان يقتل فيه أي شخص على مزاجه السوداوي وكان يقتل من يحبه لكي يرسله إلى السماء حتى لا يشقى كثيرًا أو بحجة أنه يصلح إلى السماء أكثر مما يصلح إلى الأرض. وكان يعتمد على الظنون وليس على الحقائق. وبالنتيجة استطاع شكسبير وريتشارد الثالث أن يبنيا دولة العنف والإرهاب، انطلاقًا من قانونهم الأخلاقي وليس من قوانين الأخلاق العامة التي يسمّيها كيركيغارد الإلزام الذاتي عند البطل. إن الاستغراق بالمعاصرة الشكسبيرية قد جاء نتيجة لقدرته الفذة في الدخول إلى أعماقنا. توقف السوداني عن موضوع شيزوفرينيا الذات عند الليدي مكبث ووصفها بأنها أنثى الأنثى، التي تستطيع الهيمنة على كل شيء وليس الوصول إلى السلطة فقط وهنا تتمثل سقطتها وتكاملها الأنثوي في السيطرة على كل شيء. يسعى السوداني لأن يجرب مفهوم السقطة على عدد غير قليل من الشخصيات من بينها أوفيليا التي قالت: "أربعون ألف أخ بمجموع حبهم لن يساووا مقدار حبي أنا". ترى، كيف يستطيع هاملت أن يلغيها، وهو الذي يسعى إلى أن ينقذ النظام الدنماركي من الفساد لكنه بسبب تردّده لم يستطع أن ينقذ نفسه ولا أن يخلّض الدنمارك في الفساد، لأن هناك شيئًا عفنًا في هذا البلد. يتوقف السوداني عند قصيدة "أوفيليا" التي كتبها رامبو وترجمها كاظم جهاد ترجمة جيدة يقول فيها:"منذ ألف عام وأوفيليا الحزينة/ تخطر شبحًا أبيض على النهر الطويل الأسود/ منذ ألف عام وجنونها العذب/ يهمس بأغنيتها لنسيم المساء/ إنكِ السماء والحب والحرية، يا له من حلم أيتها المجنونة". لقد حوّلها رامبو إلى ثلاثة أشياء وهي "السماء والحب والحرية" وحينما يلتقي الحب والحرية تتولد طاقة هائلة جدًا بينما تعيش هي في دروب الحياة المملوءة بالأسى.

يستعمل شكسبير التشبيه والاستعارة وكل ما يخص اللغة الأدبية، كما يوظّف مظاهر الطبيعة التي تعبّر عن دواخل الأبطال فبعد مقتل دنكن نرى صورًا رهيبة وأصوات مجلجلة توصل المشهد إلى القيامة الشكسبيرية. وعندما نقرأ مسرحيات شكسبير، فيجب ألّا نقرأها كنصوص أدبية وإنما كنصوص بصرية وأن نبحث بين تلافيف الجملة الواحدة حتى نصل إلى الوعي البصري وهو بالأساس كتبها للعرض المسرحي وليس للقراءة. وعلى الرغم من أهمية مسرحية "هاملت" وشهرتها العالمية إلاّ أنّ درايدن يدين شكسبير ، ويقول إنه استعمل الكثير من الوصف والتشبيه والاستعارة مما أفضى إلى غموض المعنى، بينما يقف السوداني ضد هذا الرأي ويعتقد بأنّ درايدن يقرأ شكسبير قراءة أدبية وليس قراءة بصرية لها علاقة بالعرض المسرحي أكثر من علاقتها بالأدب. ويذهب السوداني إلى أن شكسبير لديه غموض شعري ويمتلك روحًا حقيقية داخلية ليس من السهل تفكيكها ويجب على الباحث أن يمتلك الوعي والتكنيك البصريين حتى يستغور المعاني الحقيقية للقيمة الدرامية التي ميّزته عن معاصريه. يدعو السوداني الحضور أن يقرؤوا مكبث عندما يحاصره الأعداء وهو يعتقد بأنه خالد لا يموت حسبما قالته الساحرات فيسأل الخادم عن الأصوات فيرد عليه: "لقد ماتت الملكة" عندها يقول:" "غدًا وغدًا وغدًا/ وكل غد يزحف بهذه الخطى الحقيرة يومًا إثر يوم،/ حتى المقطع الأخير من الزمن المكتوب/ وإذا كل أماسينا قد أنارت للحمقى المساكين/  الطريق إلى الموت والتراب" إلى أن يقول في النهاية:" ألا انطفئي يا شمعة وجيزة/ ما الحياة إلاّ ظل يمشي، ممثل مسكين/ يتبختر ويستشيط ساعته على المسرح/ ثم لا يسمعه أحد: إنها حكاية يحكيها معتوه، ملؤها الصخب والعنف/ ولا تعني أي شيء". واعتبرها السوداني التنفيسة الأخيرة لمكبث وشكسبير على حد سواء.