دعد ديب
لأن صوت الحياة أقوى. نستمر رغم ما مر بنا وحولنا من كوارث وليس آخرها بحر الدم الذي يجري في غزة، غير أن المفارقة بين أن يكون البعض مجاوراً ومسبباً في جحيم الموت وتستمر حياتهم على مقربة بكل الدعة والهناءة والتمتع بمباهج الطبيعة، هذا هو موضوع فيلم ( The Zone Of Interest) " منطقة الاهتمام" من إنتاج مشترك بين بريطانيا وبولندا وإخراج "جوناثان جليزر" المقتبس عن رواية "مارتن أميس" وقد حاز مؤخراً على جائزة الأوسكار لعام 2024 لأفضل فيلم أجنبي وأفضل صوت، وهو أيضاً الفائز في العام السابق بـ"الجائزة الكبرى" وجائزة "الاتحاد الدولي للنقاد فيبريسي" لمهرجان كان السينمائي، يستعيد الفيلم أيام ألمانيا النازية بأسلوب مختلف عما تم تصويره سابقاً لمعسكرات الموت حيث تقيم أسرة قائد معسكر "أوشفيتز"- القائد النازي (رودولف هوس)، وزوجته (هيدويغ) وأطفاله الخمسة وكلبهم في منطقة أشبه بالجنة حيث الأشجار والطبيعة والمنتزه والمسبح والبيت الواسع الأنيق والخادمات اللواتي يتحركن في كل مكان لتلبية احتياجات الأسرة بالإضافة للعلاقة الحميمة التي تربط القائد بأولاده والحنان الغامر الذي يحيطهم به وخاصة البنت التي تسير في نومها، حياة هانئة لأسرة تعيش في ذلك البيت، البيت المحاذي للمعسكر، وعلى الرغم أن الفيلم لا يصور أبداً المعسكر من داخله، ولا المآسي التي تحصل بين جدرانه، وإنما يرصد حالة التجاهل واللامبالاة التي تستطيع أن تعيشها أسرة بجانب الموت القريب في معسكر الإبادة الذي مات فيه أكثر من مليون شخص في أقل من خمس سنوات في مدينة "أشفنشم" البولندية عام 1943 – لما فيه من تحفيز الذاكرة على استدعاء الألم والحساسية البشرية للظلم الذي وقع على أناس أبرياء، وتذكير بما وقر بالذاكرة الإنسانية من جرائم الإبادة العنصرية، يستنتج ذلك من خلال حوارية القائد العابرة عن أسلوب التخلص من الأعداد المتزايدة من قوافل البشر القادمين إلى المعسكر "بالمحرقة أم بالغاز" وأيها أقل تكلفة وضررًا للبيئة وهو إلى ذلك غير معني بأي شعور إنساني تجاه الحياة التي تباد، لم يختلف عنهم سوى موقف أم الزوجة فهي على الرغم من تفكيرها العنصري تجاه اليهود إلا أنها لم تستطيع الاستمرار في مكان تعبق به رائحة الموت وضجيج العذاب المخنوق، كما لعبت الموسيقا التصويرية دوراً هاماً في الإحالة إلى صراخ الضحايا المكتوم، إذ كانت مزيج من أصوات الطبيعة المبهمة والأنين الخافت وطلقات الرصاص التي تتردد من وقت لآخر ليختم العمل بمتحف الهولوكوست المكتظ بأحذية وألبسة الضحايا الباقية والشاهدة على جريمة حصلت ذات جور كافر. يقول المخرج في تصريحه للصحافة إن الفيلم "ليس من أجل القول انظروا إلى ما فعلوه في ذلك الوقت بل، أنظروا إلى ما نفعله اليوم" أي إن الأمر لا يتعلق بالماضي بل بالآن وهو يشير إلى الضحايا من الطرفين ضحايا هجوم 7 أكتوبر وضحايا الإبادة في غزة، ورغم ما في هذا القول من مساواة بين الضحية والقاتل، لأنه بالأساس أي وجود لأي غريب مستوطن في أرض فلسطين هو وجود غير طبيعي بصفته محتل لأرض الغير، وجاء إلى فلسطين بخرافة الرب الذي منحهم أرضاً موعودة وحقوقاً مقدسة، خرافة لا تصلح لعالم اليوم الذي يحفل بالعلم والاختراعات في القرن الواحد والعشرين، وما قوله بأن "الاحتلال (الإسرائيلي) اختطف المحرقة، وتسبب في قتل الكثير من الأبرياء" في غزة هو إقرار بواقع نراه يتجدد يوميًا رغم ما تعرض له المخرج المذكور من مضايقات لهذا التصريح.
وربما استنبط من الفيلم أيضاً رسالة للجميع في الوقت الحاضر فنحن كلنا والعالم نرى الهولوكست الفلسطيني يحدث أمامنا عبر عمليات إبادة منظمة تتناقلها الفضائيات يومياً ومع ذلك يستمر كل منا وكل العالم بحياته الطبيعية والبعض ينزعج من ترداد هذا الموضوع وسماع التفاصيل عما يحدث بسبب من سيطرة التفاهة واللامبالاة بكل شيء. استطاع الفيلم أن يتجاوز الأعمال الفنية المستهلكة للاضطهاد والمظلومية، التي مورست على اليهود في المرحلة النازية والتسويق الهوليوودي المكرر لها والتي أُغرقت السينما بها للتغطية على ما يحدث اليوم في فلسطين، وجاء كصرخة توقظ الضمير الإنساني المستكين لتجاهل الاهتمام بقضايا الإنسان والكيل بمكيالين. في خلفية هذه الأعمال يتبدى بكل وضوح ازدواجية المعايير في تبرير أو إدانة العنف والموت الذي يلف العالم، وضحايا الأمس أسلافهم قتلة اليوم، ومظلومو الماضي ظلّام الحاضر
فكيف يتفق ذاك مع هذا؟
وهل الهولوكوست الماضي يبرر محارق جديدة؟