علي لفتة سعيد
لم يكن التاسع من نيسان يومًا عاديًا، أو أن هذا التاريخ النيساني مجرّد عملية تغيير حكمٍ في العراق من نظامٍ إلى نظام، بل هو الموقف والنقطة الفاصلة في التاريخ، وإذا ما ذكرت السنة، ذكرت معها الأحداث الأخرى. بل هو لا يختلف عن كلّ التواريخ التي مرّت على العراق عبر تاريخه الطويل الجذوري أو تاريخه الحديث، سواء في ثورة العشرين أو 14 تموز أو 17 تموز وحتى تاريخ الحرب العراقية الإيرانية، فهو تاريخٌ يبقى ماثلًا، سواء كان له مؤّيدون أو معارضون.
إن أكثر ما صادف هذا اليوم، وبعيدًا عن الإدراكات النفسية، أن لا يؤخذ بنظرته التحليلية على وفق النظرة الآنية الحالية التي جاءت بعد إحدى وعشرين سنة، لأن التحليل هنا سيكون باتجاهاتٍ عديدة، وقد لا يتم التوافق عليه، مثلما حصل في السنوات الأولى التي تلت التغيير؛ هل كان الأمر تحريرًا أو احتلالًا؟. فكان الانقسام واضحًا بين فريقين لا ثالث لهما. لذا فإن النظرة الحالية قد تؤدّي إلى تشعب الفرق، وكلما اتسعت الفرق ضاق التعبير . ولكن لو عدنا إلى الأمر على أنه تاريخ، فمن الواضح هو أن هذا اليوم كان يحمل الاثنين معًا. هو يوم التحرير الذي تحوّل إلى احتلال، ويوم الاحتلال الذي تحوّل إلى مصير، وبين الحالتين يقف العراقي والمثقّف منهم أمام بوّاباتٍ عريضة، يصعب عليه الدخول من أي بوّابةٍ يدخل. ولكن ربما يقف على أهم المتغيّرات التي يمكن الشعور بها حينًا، وملامستها حينًا آخر، بما هو واقعٌ مادّيّ أمام العراقي، حين يحسب الأمور بالنفع العام، رغم أنه لا نفع لأيّ أمرٍ في ظلّ الاحتلال مهما كانت النتائج إيجابية، لأن الإجابة في زمن الاحتلال هي سلبيةٌ مستقبلية، وهو ما كنّا نؤكّده في السنوات الأولى بعد هذا التاريخ.
ولكن الأمور بحاجةٍ إلى طرح إجابات لعلاماتٍ استفهاميةٍ كثيرةٍ، على وفق أثر المتغيّرات في حياة العراقي، بعيدًا عن السلبيات أو أسباب الاحتلال أو التحرير، وما حصل قبل هذا التاريخ وبعده.
إن من أوليات الأمور، أن العراق أصبح يعيش زمن الديمقراطية، وإن كانت لم تزل عرجاء:
1 - أنه بدء الزمن الجديد الذي ارتفع وجعل العراقي متمكّنًا من طرح آرائه، سواء كانت مع السلطة أو ضدّها، وهو أمر كان مفقودًا.
2 - أن العراقي الآن صار يهتم بحياته المعيشية التي وجد فيها انتقالًا جيدًا إلى الأمام، بعد أن كان الحصار يطبق عليه ويخنقه، وهو الذي تسبّب بابتعاد الخريجين عن التعيين لقلّة الرواتب، على العكس من الزمن الراهن الذي صارت فيه الوظيفة هي المقياس لرفاهية الإنسان.
3 - أنه زمن الممارسة الفعلية للانتماءات، سواء كانت دينية أو سياسية، وانتهاء عصر الحزب الواحد أو القطبية الحزبية الواحدة.
4 - أنه سمح بالتعددية الحزبية وعودة الأحزاب بكلّ أنواعها، ولاسيما تلك التي كانت لها جذور في العمل السياسي، والتي منعت في زمن القطبية الحزبية.
5 - أنه زمن سمح بحرية العمل السياسي الذي أدى إلى ظهور حركات وأحزابٍ تمارس دورها الفاعل من أجل تحقيق أهدافها.
6 - أنه زمن يمكن أن يكون فعّالًا من ناحية تنمية القدرات في سبيل بالبناء، بعيدًا عن الحروب التي خاضها العراق وأنهكته اقتصاديًا وبشريا وتنمويًا.
لكن على الطرف الآخر الذي يعارض التغيير ويعده احتلالًا، وأن ما حصل من مكتسبات يعدّها الطرف الأول مهمة، فإنها لم تكن بهذا الحجم الذي يستحق أن تكون الأمور صحيحة القوام. ويؤكد هذا الطرف أنه احتلال ولا يمكن القبول به مهما كانت الذرائع والحجج بسبب:
1 - أن الاحتلال جعل من الصوت الذي كان مخنوقًا، قابلًا لطرح الآراء بحريةٍ تامة، ولكنه مجرّد صوتٍ مخنوقٍ ومراقبٍ وغير مؤثّر في الكثير من الأحيان.
2 - أن الاحتلال تسبّب بضعف مكانة العراق الدولية وأصبح العراقي على غير ما هو عليه عبر تاريخه الطويل، وأنه لم يعد محوريًا في الساحة الدولية، ولا مركزيًا في المحيط العربي والمنطقة.
3 - أن الاحتلال جلب الكثير من المعاناة للشعب العراقي، ومنها تنظيمات الإرهاب للقاعدة وداعش، وما سبّب ذلك من عملية قتل وتهجير ونسف لكلّ البنى التحتية في البلد.
4 - أن الاحتلال تسبّب بتحارب الداخل، من خلال تفعيل الطائفية الدينية والمذهبية والقومية، التي أدّت إلى تنامي حدّة الصراع ولاسيما في السنوات الأولى للتغيير.
5 - أن الاحتلال أوجد طبقةً من الفاسدين بسبب تعدّد السلطات، ومن خلال إيجاد دستورٍ جامدٍ ونظام حكمٍ لا يجعل الدولة قوية، لأنه جعل الحكم ليس محاصصاتيًا فحسب، بل إن السلطة خاضعة إلى القوة البرلمانية، التي هي نتيجة التفعيل الطائفي الديني والقومي والصراع الحزبي.
6 - أن الاحتلال جعل من الساحة السياسية مفتوحةً لكل من يجد في نفسه القدرة على العمل السياسي، وهو ما أدّى إلى وصول عدد الأحزاب إلى المئات، وهو الأمر الذي يجعل من أفق التعبير أكثر اختناقًا وقلّة فعلٍ إيجابي.
ربما هناك نقاط كثيرة تدور في فلك الحالتين في العراق، ولكن سواء كان الأمر تحريرًا أو حتلالًا، فإن الواقع هو أن التغيير قد حصل، ولا نفع في التفكير بجدواه بعد 21 سنة . وسواء كان العراقي مع هذا الجانب أو ذاك، فقد تمّت تجربته على أنه خسارة كبيرة وربح أقل حتى بالنسبة للمؤيدين على وفق النتائج الملموسة. لذا فإن الأمر بحاجةٍ إلى توحيد الرؤية، والعمل على بنيان الدولة، وزيادة الأواصر بين الحكم الذي تحوّل إلى سلطةٍ متعدّدة الرؤوس، والشعب المتعدد الطوائف والقوميات والأعراق، من خلال العمل من أجل الوطن، حينها سيكون العراقي ليس بحاجةٍ إلى إجابة؛ هل كان التاسع من نيسان يوم احتلالٍ أو تحرير، فالديمقراطية ستكون فاعلةً أمام ما هو غير فاعٍل في الزمن الراهن.