الأديب الأوزبكي عبد الله قادري: خبث أصحاب السلطة

ثقافة 2024/04/14
...

 أحمد جاسم الزبيدي 

عبد الله قادري، الذي ولد ونشأ في أرض اوزبكستان، لم يكن مجرد كاتب، بل رائداً في عالم الأدب الذي أثرى التراث الأوزبكي بأعماله الفريدة والمميزة. امتازت كتاباته بالعمق والتنوع، حيث امتزجت بين الروح الشرقية والتأثيرات الغربية، مما اكسبها طابعاً ثقافياً متفرداً.

   ويعتبر عبد الله قادري الشاعر والأديب والمؤلف المسرحي الأوزبكي المشهور على نطاق واسع في وطنه اوزبكستان وبلدان الاتحاد السوفييتي السابق والشرق، مؤسس الرواية في الأدب الأوزبكي الحديث.

ولد الكاتب الحداثوي عبد الله قادري (جولوكباي)* بمدينة طشقند في العام 1894 في أسرة فلاحية ثرية، درس العلوم الدينية في مدرسة (ابو القاسم) في طشقد. عاش  سنوات صباه بين التجار والفلاحين الفقراء والأغنياء، وكذا الحرفيين وعامة الشعب،  واهتم منذ صباه، بالفلاحين المعدمين الذين جاؤوا إلى طشقند تحت وطأة الفقر بحثاً عن مصدر للقمة العيش. دخل معترك الحياة الاجتماعية والسياسية في عشرينيات القرن الماضي وبدأ في العام 1924 بنشر مقالات سياسية ناقدة نشرها في جريدة "تركستان"  ومجلة "موشتوم"  مما سببت هذه المقالات في توجيه أنظار الطبقة الحاكمة إليه، وتعرض بسبب نشاطه في الحياة الاجتماعية ونشاطه الإعلامي للسجن مرات عديدة، وآخر مرة ألقي القبض عليه وسجن في العام 1937، حيث اتهم بـ  (عدو الشعب)  وللسوفيت وحكم عليه بالاعدام في العام 1938. وكان من ضحايا الحقبة الستالينية التي غيبت العديد من الأدباء والمفكرين الاوزبك آنذاك.

ولعب اهتمامه بعامة الناس، واحتكاكه في مدينة طشقند بالمثقفين دوراً هاماً في تشكيل وعيه ونمو آفاق إبداعه ومستقبله كأديب أوزبكستاني .

تعتبر أعمال عبد الله قادري مرآة تعكس جماليات الحياة وتحمل في طياتها قضايا اجتماعية وفلسفية تتناول قضايا الإنسان والوجود. تميزت رواياته بالسرد الشيق والأسلوب الأدبي الرفيع، مما جعله يحظى بإعجاب القراء والنقاد على حد سواء.

لم يتعرف الكاتب على حياة الشعب عن طريق السماع أو الاطلاع على الكتب التاريخية، بل تشبع بخصائصه وعاداته العريقة عن طريق التعامل المباشر مع كل الذين احاطوا به .

 التحق  عبد الله قادري بعد انهائه  المدرسة الدينية، بالدراسة في المدرسة الروسية المحلية. إلا أنه انكب خلال دراسته على قراءة مؤلفات: علي شير نوائي، ولطفي، ومقيمي، وفرقد، وتشولبان، وفطرت، وغيرهم من كلاسيكيي الأدب الأوزبكي .

اللافت أن أصالة وإبداع هذا الأديب على أعتاب القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي كانت مرحلة تحولات اجتماعية جذرية في المجتمع الذي عاش فيه.  وهو ما أثر على وجهة نظره الأدبية وزادها تعقيداً وتناقضاً، إذ كانت تلك الحقبة مرحلة غير مستقرة عانت من التصدعات والارهاصات الاجتماعية، والسياسية، والأخلاقية.  حيث تركت بصماتها على مؤلفاته وآراءه، التي كانت بحد ذاتها متناقضة، ولم تخلو من الأفكار الاجتماعية والحياتية المنحازة لوطنه وشعبه  .

وامتاز  المنحى الذي أختاره الكاتب في بحثه الأدبي بالشموخ الدائم، والمؤلفات الإبداعية المتميزة. 

ووثبت فترة قمة عطائه الأدبي لمنح إجابات على أسئلة تاريخية تشكلت في الحياة الاجتماعية الأوزبكية، حيث عكست وبشكل واسع واقع الحياة المعاصرة أو ما اصطلح على تسميته آنذاك بـ "الوقت الميت" في واقع التاريخ المعاش في تلك الحقبة.

ومن درر  إبداعات الكاتب روايات تاريخية، منها: "أيام زمان" كتبها  في العام 1926؛ و "في المحراب عقرب " كتبها في العام  1929؛ وكانت من المؤلفات الأولى التي تناولت مواضيع تاريخية في الأدب الأوزبكي الحديث وقد ترجمها إلى اللغة العربية الصديق سيد محمود سيد كاساني وقمت بتحريرها، ورواية "الأيام الماضية"؛ وقد تناولت الرواية الواقع الاوزبكي في تلك الحقبة بالكامل، والصراعات الاجتماعية والأخلاقية الصعبة آنذاك.

حيث أولى عبد الله قادري الاهتمام في مؤلفاته، النواحي الجمالية للتقاليد والعادات الشعبية، والعبادات المذهبية الدينية، واستعرض القوانين غير المعلنة، سارية المفعول في أروقة قصور حاكم طشقند عزيز بيك آنذاك، حيث  كانت تنتهك حقوق وكرامة الناس. إذ وصف عبد الله قادري مكر وخداع وقسوة "القاضي" مع "الجانحين".  

إن أمثال: عزيز بيك المخادع الكاذب المنافق بحذاقة الذي حكم طشقند لمدة ثلاث سنوات،  وبسببه هوت طشقند خلال تلك الفترة بالانحدار، وأصاب الحرفيين الافلاس، وأدى إلى انخفاض زراعة الرز، والقطن، بشكل مشهود وواضح. 

وعكست روايات عبد الله قادري الفقر الروحي والخبث لدى أصحاب السلطة، وانشغال قادة السلطة عن الاهتمام بالرعية، وانغماسهم باللهو والفجور واهمالهم القضايا الاجتماعية الانية  الملحة، وعجزهم عن إيجاد طرق عملية لحلها. وبهذا المضمون، وهذا الإطار كانت رواية "الأيام الماضية" قمة السمو في إبداعات عبد الله قادري، ومرحلة مائزة من مراحل تطور فن النثر في الأدب الأوزبكي الحديث.

وقام عبد الله قادري وبمهارة فنية عالية، وبصدق، بوصف تناقضات واقع عالم الاقطاعيين. وأبرز الشعب كصانع للقيم المادية والثقافية من جانب، ومن جانب آخر، كحامي ومدافع عن الدولة، وحاول في كتاباته تقويض أسس حكم الخانات، ودعى للتمرد على مضطهدي الشعب. وبالضبط ضد الحكام الذين فرضوا على الشعب ضرائب كبيرة وباهظة.

وتمثل الصراع الرئيسي في الرواية، كصراع اجتماعي وأخلاقي ضد التناقضات الجارية بين الأب والابن، عطابيك الفتي، وهو إنسان يتمتع بنظرة تقدمية نحو "البناء الأسري"، ويكافح ضد التقاليد، وخاصة عندما قام الوالدان بتزويج ابنهم من فتاة لا يحبها، ووالده يوسف بيك حجي، الذي كان حامياً للتقاليد، والنظام الأبوي، والعادات الأسرية القديمة. وبمهارة وصف عبد الله قادري هذا الصراع الدائر ضمن الأسرة، ليس كصدفة، بل كظاهرة قومية عامة.

وصور صراع عطا بيك والفتاة التي أحبها كوميوش، كظاهرة جديدة لم يعتد عليها الأدب الأوزبكي. أتابيك منحدر من أسرة غنية، وهو إنسان متعلم، ويفهم الحياة بطريقة مغايرة لمفهوم الجيل الذي سبقه، ويملك أحاسيس قوية بالعدالة. ومن خلالها يفضل محبوبته كوميوش، التي تتمتع بتربية جيدة، ومتعلمة، وذكية، وتملك جمالاً طبيعياً، وحسن التعامل. واحبت أتابيك بصدق. ولكن هذا الحب حرمها من السعادة، لتبقى أسيرة للتقاليد القديمة، التي لا يحترم الأهل فيها مشاعر ابنتهم.

وطبعاً كانت كوميوش مدينة بصفاتها الروحية، والجمالية، وغنى عالمها الخاص لأمها، أفتوب أيم، التي جسدت في شخصيتها الأحلام الطيبة للمرأة الأوزبكية الأصيلة. وكوميوش الذكية، والهادئة، والمحافظة، والتي تحب أمها، تحب بصدق إنسان أبعدته عنها ربة البيت. لتبقى أفتوب أيم أسيرة العادات القديمة، وتقوم وبصدق بتحقيق رغبات زوجها، وتطيع آراءه وتحافظ عليها.

واما اهتماماته بالمواضيع التاريخية أوضحها عبد الله قادري، من خلال مساعيه الفكرية والفنية في تصوير ماضي شعبه، وإظهاره لصبره، وحبه للعمل، وكفاحه البطولي من أجل الحرية والاستقلال، وفي النظرة العميقة بالقضايا المعاصرة للشعب الذي ينتمي إليه.

ومن خصائص روايته "في المحراب عقرب "، التي نشرت باللغة الروسية عام 1961، أن عبد الله قادري استطاع عرض صور الحياة، وتاريخ الشعب الأوزبكي بنجاح، وأدخلها بمهارة وسطوع في روايته، وأعطاها الألوان المميزة لتلك المرحلة، وكشف طبيعة أبطاله كما كانوا في الظروف التاريخية الحقيقية بأربعينيات القرن التاسع عشر.

 (حاولت قدر المستطاع سرد ظواهر الحياة الاجتماعية في تركستان، ودور الأسرة ودور المدرسة "الكتاتيب" ، ودور رجال السلطة الغارقين في شهوات النفس ورغباتها، وتباين ظواهرهم مع بواطنهم، خاصة حال حاشية خدايار خان، وأخلاقهم الظاهرة والباطنة، وإن كان هؤلاء يمثلون الجانب المظلم والموحش في الرواية، فإن هناك في الطرف المقابل وجه آخر مشرق يتمثل في كفاح البسطاء والفقراء من الناس، ووقوفهم ضد الخان وحكمه، وضد المنتفعين في بلاطه، كما نسلط في الوقت نفسه الضوء على خصال وسجايا وأخلاق تلك الطبقة، وكذلك علاقاتهم ببعض.

كما حاولت سرد وقائع تلك الطبقة ؛ ليبقى كفاحهم المشروع ضد البغي والظلم، صورة مشعة في ذهن التاريخ الأوزبكي، كما أن الرواية لم تكتف بذكر النزاعات وحسب، بل احتوت على ذكر جوانب أخرى من تلك الحقبة، مثل نظام الحريم، ونساء الخان، وبيت الأربعين فتاة، وكذلك سلطت الضوء على بعض الجوانب التاريخية والعرقية، والحياة الثقافية لدى الأوزبك، خصوصًا الجانب الفكاهي، وفن السخرية والنقد، وكذلك براعة المرأة في الشعروالقصائد، وجوانب أخرى لا يتسعالمجال لذكرها الآن، بل تترك للقارئ ليطلع عليها من خلال فصول الرواية ) .** 

ومن ضمن هذا الابتكار نظر النقاد إلى عبد الله قادري كأول رائد للرواية التاريخية الأوزبكية. وأغنى في روايته "في المحراب عقرب" إلى حد كبير تقاليد الاتجاهات الواقعية، وأدخل اسهامات ملحوظة في أشكال التحليل السيكلوجي لأبطال الرواية، وفتح طريقاً جديدة لتصوير العالم الداخلي للإنسان، مظهراً التطور الدائم لطبيعة أبطال رواياته.

اجاد عبد الله قادري في روايته "في المحراب عقرب"،  وبصدق عن الحياة الإجتماعية والأخلاقية للمجتمع التركستاني خلال الفترة الممتدة ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين.

ووضع عبد الله قادري الموهوب صوراً متعددة الجوانب للحياة التاريخية الواقعية في تركستان، عكس من خلالها وبسطوع الأحداث التي جرت، وطبيعة الأبطال، المشاركين في تلك الأحداث التاريخية الحقيقية. وأكد من خلالها على الحرية الشخصية للإنسان، وحرية أهدافه الحكيمة، وحب الشباب النقي.

وسلط عبد الله قادري  الضوء للكشف عن تميز وجوهر تركيبة الحياة الاقطاعية لدى الشعب، مظهراً طبيعة الحكام عملياً، وطبيعة ملهميهم الروحانيين، ولم يخف، بل حتى إنه وضح التناقضات بين القوانين الاقطاعية الراسخة المكتوبة وغير المعلنة، وهي "قوانين" العادات والتقاليد الشعبية. 

حيث تشكلت تلك التناقضات غير المعلنة، من خلال النهايات المؤلمة التي واجهها أبطاله في حياتهم. وأنور، ورانو، كانا الصورة الدرامية التي عكست رغبات عبد الرحمن المتمثلة بإخضاع الفتاة لإرادته، وعلى الرغم من تآمر شهيد بيك، فقد مجد المؤلف حبهم الصادق لبعضهم البعض، واستعدادهما لتكوين أسرتهم الخاصة بهم.

وصور سعي رانو، نحو كل شيء جميل، ونقي، ونبيل، وصورها  عبد الله قادري في الرواية كفتاة رائعة، تتمتع بخصائص بسيطة نابعة من الطبيعة الشعبية الأوزبكية، وتتميز بالصدق، ونقاء الأفكار، والبساطة الانساية، والإنفتاح.  واحبت أنور حباً نقياً ساطعاً، وبصدق وإخلاص. وكان أنور يجسد بالنسبة لها الرجولة، واحاسيس العدالة والإخلاص بلا حدود .

وهكذ رأت رانو، حبيبها، كما هو بالفعل. جريء، وذكي، ويحسن النضال للفوز بحبيبته، وتتلوع روحه من دونها. وهو وبكل بساطة لا يتصور حياته دون محبوبته رانو. وبفضل ذكائه، وحذاقته، وموهبته، وخفة ظله، وهو الذي نشأ يتيماً محباً للعمل، أصبح شخصية هامة في مجتمع قصر الخان، الذي أعطاه منصب ميرزا (أي أمين السر)، ليتمتع بشخصية متميزة بين نبلاء القصر.

ولكن ما ميز أنور، عن الكثيرين من المحيطين به بالفعل، هو أنه لم يفقد صلته الروحية مع الشعب الذي ينتمي إليه، وحافظ على حسن علاقاته الإنسانية، ووقف ضد العنف والاستبداد، وبقي إنساناً صادقاً، ومخلصاً. ولهذا كان أنور يعاني من صعوبات كبيرة في خدمة الخان الحاكم، الذي يتجاهل كل القوانين، ويعترف برغباته فقط وأحياناً "دون الرجوع حتى لضميره".

وعبد الله قادري مؤلف الرواية الضخمة "مجرفة عابد"، ومؤلف المقالات الأدبية التي أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الأدبية، مثل: "ماللابوي آكا من غيروان"، والكثير غيرها من المقالات الأدبية والقصص، التي قدم من خلالها إسهامات ملحوظة في تاريخ الأدب الأوزبكي. دفعت عزت سلطانوف للكتابة عن أن "عبد الله قادري، دخل الأدب الأوزبكي مثل الرعد والبرق، وكضوء البرق الساطع، وجذب لنفسه اهتمام الجميع".

ومثل هذه الشهادة العادلة جاءت أيضاً في كلمات الكاتب القازاخي مختار أويزوف الذي أشار خاصة إلى: "نحن قرأنا في أيام شبابنا روايات عبد الله قادري. وأذهلتنا مهارته في نحت الطبيعة الإنسانية، ونقله عاصفة من المشاعر الإنسانية إلينا... وكلها كانت تسمو بحب أبطالها ".

ولهذا حصلت مؤلفات عبد الله قادري الكثيرة، على اعتراف الكثير الدول الشرقية، ودول رابطة الدول المستقلة، كمؤسس لفن الرواية في الأدب الأوزبكي الحديث.

ووفقا لدراسة قام بها الباحث الدكتور حسين تكايف من جامعة داغستان "لقد حاول عبدالله قادري تقليد جرجي زيدان ونجح بهذا المضمار في كتابة رواياته وفقاً لما كتبه عبد الله قادري قائلا: إنه يعتبر جرجي زيدان معلمه  " . ***

ومن مؤلفاته: - "الأيام الماضية" - " في المحراب عقرب" - "مجرفة عابد" - "ماللابوي آكا من قيروان" - "الزنديق" - "العريس البائس" - "لأمتي" - "حفل الأرواح الشريرة".

اللافت أن دراسة مؤلفات عبد الله قادري وأمثاله لم تزل حتى اليوم هامة وتوفر الفرصة للباحثين في تشخيص الصعوبات التي عانى ويعاني منها الأدباء والمفكرين بأبداعاتهم خلال المنعطفات الرئيسية التي تجري في حياة المجتمعات التي ينتمون إليها.

______________

*الاسم المستعار الذي كان يستخدمه الكاتب عبد الله قادري .

** من مقدمة الكاتب في رواية "في المحراب عقرب"  ترجمة سيد محمود مبشر كاساني.

*** كتاب الرواية التاريخية المصرية للدكتور حسين تكايف ص -13.