النقد النسائي ... غيابٌ أم تغييب؟

ثقافة 2024/04/14
...

  علي كاظم داود

ربما يبدو من العبث التمييز بين النقد الأدبي الذي تكتبه المرأة عن النقد الذي يكتبه الرجل، فالنقد عموما ممارسة علمية ثقافية، فضاؤها اللغة، ينتج عنها نصوص جديدة، ميتا لغة بتعبير بعض الكتاب، تتناول النصوص والأعمال الأدبية بالقراءة والتأمل والتحليل والتفسير، وقد تصل إلى الحكم لصالح العمل المنقود أو ضده. ويمكن أن يحدها شيئان هما: النص الأدبي من جانب، والمنهج أو المدخل النظري من جانب آخر، وبينهما يتحرك الناقد بلغته وثقافته وقدراته في الفهم والتحليل والربط والاستنتاج.

طبيعة النقد الأدبي، إذن، لا تستدعي التمييز بين الناقد والناقدة في تعاملهما مع النص.

وهذا الكلام لا يتعلق بالنزعات والتوجهات النسوية، التي تنطلق من آيديولوجيا تقوم على فرضيات مسبقة، ترى أن المجتمعات أنشئت على فكر ذكوري، يضطهد النساء. فالنظرية النسوية هي منظور ينتمي إلى الدراسات الثقافية، وفكر ما بعد الحداثة، والنقد النسوي قد يكتبه الرجال أو النساء، يدرس كتابات المرأة أو ما يكتب عنها فقط، وهو يختلف عن النقد النسائي الذي تكتبه النساء، ولا يضمر موقفًا ما، غايته نقد الأدب بشكل عام، مثلما يكتب الرجال. 

النقد النسوي يصرف اهتمامه إلى الأدب الذي تنتجه الأنثى، أو الذي تكون هي موضوعه، وقد نشأ في سياق الحركات النسوية التي ظهرت في أمريكا وأوربا في أواسط القرن الماضي، ثم انتشرت في جميع بلدان العالم، داعيةً إلى مساواة المرأة مع الرجل، واحترام حقوقها وحريتها، والانتصار لقضيتها، وبلورة هويتها المستقلة عن هوية الرجل، ليس على أساس الاختلاف الجنسي بل على أسس ثقافية.

فالنقد النسوي يبحث عن الأنساق الظاهرة أو المضمرة في اللغة، التي تضطهد المرأة، وتكرّس الهيمنة الذكورية عليها.

أما نقد المرأة فإنه قديم، قِدَم مشاركة المرأة في الحياة الأدبية، وعند العرب إشارات كثيرة منها يعود إلى العصر الجاهلي، مع أم جندب، وحكمها المعروف في المفاضلة بين شعر امرئ القيس وشعر علقمة الفحل، فحكمت للثاني على الرغم من إن الأول زوجه، كما يروى في كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري، وغيره. ثم ظهرت على امتداد عصور الأدب نساء أخريات كانت لهن آراء نقدية، وحتى العصر الحديث الذي صارت فيه مشاركة المرأة في الحركة النقدية أمرًا طبيعيًا. إلا إن عدد الناقدات قليل مقارنة بالنقاد، وهو أمر قد لا يختلف كثيرًا عن بقية الأنواع الأدبية، إذ غالبًا ما يتفوق الرجال على النساء عدديًا.

تتداول بعض الكاتبات رأيًا مفاده: إن ندرة أو قلة الناقدات الأدبيات، أي قلة النقد النسائي، هو بسبب الهيمنة الذكورية على المجال النقدي، أو بسبب الخجل المعرفي الذي يعتري الكاتبات، ويحول دون اقتحامهن له! وكأن كل مصائب المرأة في هذا الكوكب الوعر إنما هي بسبب الرجل. فحتى لو كان الأمر بعيدًا عن المنطق، فيجب ليّ عنقه حتى ينسجم مع طروحات الحركات النسوية أو الفيمنزم!

ربما يغيب عن هذا الرأي أن المرأة بطبيعتها كائن محب للتعبير عن الذات والبوح باختلاجاتها وعواطفها، تستعمل في ذلك لغةً غالبًا ما تكون مونولوجية وجدانية، وهذا ليس عيبًا فيها، ولكنه لا ينسجم مع طبيعة الخطاب النقدي المعياري الذي يهدف للحديث عن الآخر، وعن ما يكتبه الآخر، بلغة علمية تحليلية، تفترض تغييب الذات، والحد من نوازعها. فكيف الحال إن كانت بعض المناهج النقدية تعمل على إقصاء الذات تمامًا، أي ذات الناقد وصوته الخاص، وتسعى إلى الحياد التام، وإن كان هذا المطلب شيئًا بعيد المنال. ومع ذلك قرأنا وعرفنا كثيرًا من الناقدات اللاتي كتبن ونشرن كتبًا ودراسات مهمة، ولم يعترض طريقهن أحد، فلا أظن الموضوع متعلقًا بالخجل المعرفي، الذي لم أتبيّن دلالته بالضبط؛ فما دخل الخجل بالمعرفة، وهل يخجل إنسان عن بيان معارفه؟صحيح أن بعض الدراسات النفسية والسلوكية والتربوية قد استعملت هذا المصطلح، لتشمل به الذكور والإناث، ولم تخصصه بالإناث فقط، غير إنه يبدو مصطلحًا مرتجلًا، ينطوي على تناقض صياغي، لا بد من الالتفات له.

عندما تكتب المرأة النقد فإنه يأخذ حيزه الطبيعي، نشرًا وتداولًا، على مستوى الأوساط الأدبية والأكاديمية، بل قد يتفوق في تأثيره أحيانًا على كتابات النقاد، ولا يقف بوجهه الرجل، إلا على سبيل النقاش والحوار والتفاعل، وقد برزت العديد من الأسماء النقدية، مثل: جوليا كرستيفا، سوزان برنار، يمنى العيد، رضوى عاشور، سيزا قاسم، سهير القلماوي، زهور كرام، سلوى سعداوي، آمنة بلعلي، نازك الملائكة، نادية العزاوي، نادية هناوي وأخريات كثر.

قد يكون التمييز بين النقد النسوي والنقد النسائي أمرًا شائكًا، فهو محل تجاذب شديد بين المناصرين والمعارضين، ولكن في العموم يبدو أنه لا ضير في كتابة نقد يعتمد المنظور النسوي، لنصرة المرأة اجتماعيًا، ولكن ذلك يجب أن لا يختلط مع النقد الذي تكتبه المرأة بوصفها ناقدة أدبية، ولا أن تُبرر كثرة النقاد أو قلة الناقدات بتبريرات غير منطقية، فلا ربط بين الأمرين. ولا ندري، فربما يأتي يوم يشهد ازديادًا في عدد الناقدات، إذ إن ذلك مرهون بتغيّر أساليب التفكير والكتابة النقدية لدى النساء؛ ولا ريب أن عصرنا قد شهد تحولات كثيرة وكبيرة في القيم والأفكار والثقافات، كما إن نسبة النساء المتعلمات والقارئات والكاتبات قد ارتفعت بشكل غير مسبوق، وزاد حضور المرأة الفاعل والمؤثر في جميع الأصعدة، حتى تفوقت على الرجل في مجالات عديدة مهمة.