{باب الدروازة}.. مرحلة زمنية أبطالها شهود وضحايا

ثقافة 2024/04/14
...

   باسم عبد الحميد حمودي


"باب الدروازة" لعلي لفتة سعيد رواية صنعت بمهارة محترف، طبعتها دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2022 لتحصل على الجائزة الأولى في الرواية لعام 2023 مع رواية رغد السهيل "كورونا" من قبل وزارة الثقافة العراقية.

والجلي هنا- ونحن نكتب عن رواية عراقية معاصرة - أن نجد فيها مفاتيح رواية تعتمد على الواقع المعاش بتفاصيله، لا بعرض صورة درامية واسعة كثيرة الاصول والفروع بحيث تتشظى التجربة ويضيع جهد الروائي.

 وقبل الدخول في تفاصيل الرواية، يهمنا الوقوف عند معنى العنوان "باب  الدروازة" وهذه تسمية تعني باللغة الفارسية "الباب المفتوح" مخففة من كلمة "داروازة" وهي في لغة الاوردو الهندية تعني "البوابة"، وتطلق قديما في دول الخليج على بوابات المدن القديمة التي كانت محاطة بالأسوار وتغلق ليلا خشية هجوم عدو.

 و"باب الدروازة" هنا في الرواية اشارة لانفتاح "باب القبلة، سوق السرابادي،  الشوصة" وعموم المحلة الشعبية على الرياح الجديدة وعالم اليوم وسكانها يعيشون الصراع بين القديم والجديد، وهذه عتبة أولى في الرواية التي تتجسد بأبطالها المختلفي التجارب.

داخل التجربة يلمس البطل الأساس "خلاوي" ذلك الاستدقاق في الصراع بين قوى السكون وقوى التجديد  مع الازدواجية في ذات المكان بين الأيمان المتعصب والإلحاد المفرط، بحيث تتداخل المعايير.

 التزم سعيد ببطله "خلاوي" وهو يخوض تجربة عيش كثيرة التفاصيل، ابتداء من قدومه من محلة الاسماعيلية في مدينة سوق الشيوخ إلى محلة باب "الدروازة" في الكاظمية في صباح يوم صيفي من أيام عام 1978، حيث بدأت فصول الرواية التي تنتهي مادتها الدرامية أيام بدء الحرب بين الجارين عام 1980.

تعلم خلاوي الكثير في الكاظمية حتى دخل في تفاصيل اللغة المحكية في باب "الدروازة"  ولهجات أهل بغداد المتعددة التي تقدم قاموسا فيللوجيا مناطقيا فيه من "الرهاوة" في اللفظ "الفونتك" أكثر من الشد الجنوبي للكلمة. 

كانت اللهجة واحدة من الاختلافات لكن الاختلافات الاخرى موضوع السكن في خان مكتظ بالغرف والعوائل المتعددة الامزجة والموحدة في صنبور الماء الوحيد  والحمام  المشترك وساحة الخان الواسعة قليلا التي تختلف عن ساحات البيوت "وحتى الأكواخ" في سوق الشيوخ وقراها.

 في "الخان" يسكن خلاوي مع جدته التي ترعاه وشقيقه "سليم" طالب الدكتوراه وإلى جوارهما غرفة عائلة حسين طالب الكلية الطبية وحسن الفنان طالب اكاديمية الفنون الجميلة، كانوا جمعا من طالبي العلم الفقراء من سكان الخان وإلى جوارهم غرفة للحفافة أم صلاح وإلى جانبها غرفة ابي فتحية الحمال في الشورجة وابنته فتحية المغناح.

 كان دخول خلاوي المجتمع الكاظمي ليعمل في محل بائع الثلج المهذار "سعيد" زوج خالته مفتاحا لحياة جديدة غريبة التفاصيل حادة البناء الاجتماعي.

كان الصدام اليومي بين سعيد "زوج خالته الذي يعمل خلاوي لديه"، وهو شيوعي سابق وجاره "هادي ابو السبح" و"سعيد" هذا اللعان الشتام العصبي المزاج  المجدف علانية والذي يواجه بائع السبح "هادي" دوما بالنقاش المنفعل، فيما يقوم هادي بالتهدئة عندما ترتفع سورة غضب سعيد ويزداد حقدا وتجديفا وسبابا لكل الكائنات.

كان "خلاوي" بطلا وشاهدا على الكثير من التحولات الاجتماعية والسياسية  منذ قدومه من بيئته التي تتراوح تقاليدها بين الريف والمدينة في مجتمع غني بالتفاصيل الحية التي أرهقت خواطر الفتى خلال تجواله القليل بين غرفته في الخان مع جدته وشقيقه ودكان سعيد ابو الثلج الذي يظل مستفزا طيلة النهار وهو يشتم الدولة والآلهة الجدد ، والآلهة القادمين مستقبلا وهو يعلن إلا فائدة من كل شيء.

 خارج اطار العمل اليومي مع سعيد تتكشف لخلاوي عوالم اخرى تصله مباشرة عن طريق الاحتكاك بفتحية، صبية الخان الجميلة التي احبته وأخذت تقابله خارج الخان في الحديقة الكبيرة قرب جسر الائمة، وعن مسموعاته من سعيد الذي كشف له جزء  من أسراره عندما وثق به، كشف له عن صندوق مذكراته الذي حوى الكثير من هواجسه وفكره الذي تشظى تقريبا خلال عمليات التعذيب الجسدي والفكري من قبل سلطة البعث بحيث فقد جزءا من طواعية العقل، فيما تكشف له موقف هادي ابو السبح عن رفقة قديمة له مع سعيد، وعن ادراكه أن هذا الخروج على المألوف في التعامل مع الناس لدى سعيد انما جاء نتيجة وعي هادي أن الصراخ العلني المقاوم لن يحلب سوى البلاء.

 مقابل ذلك يقودنا المؤلف لعالم  أم صلاح "الحفافة" وعلاقتها ببائع الروائع والعطور وقوارير السعادة الموهومة، بحيث كانت تستكين صاغرة لعلاقة فرضتها الظروف وطبيعة جسمها المغطى بالشعر.

ذلك الشكل الإنساني الذي تجسده أم صلاح المهابة من كل سكان الخان وتكشفه فتحية  اثناء ذهابها مع أم صلاح إلى حمام السوق.

في ذات الوقت تتكشف لام صلاح طبيعة الشكل الإنساني الفتي لفتحية وهي امامها في حمام النساء حيث اتضح للحفافة أم صلاح أن جارتها الشابة في الخان- فتحية، ليست عذراء ومترهلة الصدر، وهما أمران صار خبرهما طاغيا لدى نسوة الخان، وذلك أمعانا من أم صلاح من الرغبة في تجريد فتحية من سلاح العذرية المهمة أمام خلاوي وشباب الخان الاخرين.

تستمر صراعات الشر داخل الخان ووسط باب المراد وتتكشف لخلاوي وهو يعيش التضادات بينهم تغيير اشكالهم البشرية إلى كلاب ووحوش كاسرة ترتفع عندها أصوات النباح العالي الرتم.. أو القليل الضعيف الأداء! ثم تتغير الأشكال من جديد وتعود إلى سياقها الإنساني في تصور خلاوي الذي تتقاذف به الاراء والاهواء بين رغبات فتحية الجنسية وبناء علاقة متينة مع خلاوي وبين صراخات سعيد الذي بدأ يخطب بين الناس ويشتمهم ووضع البلد يسوء، فقد بدأت المضايقة على القوى الديمقراطية، ووضحت بدايات الصراع العسكري مع الجارة ايران حتى أعلنت الدولة بدء القتال، وأعلنت دخول الشباب الذين هم من ضمن مرحلي السوق في معسكرات التدريب وكان منهم خلاوي الذي لم يستطع الاستمرار في الدراسة لدخول مواليده سن التكليف.

 كانت اعترافات بائع الثلج "سعيد" لخلاوي في انه كان سجينا تعرض للتعذيب وأنه كان يدعي الجنون ويشتم كل شيءعلانية كحاجب يبعد مخالب السلطة عنه جزءا من الكشف الذي مهر الروائي في صياغة حجاب بينه وبين القارئ، حتى كشف عنه  في اللحظة المناسبة.. لحظة دخول خلاوي لوحده سلم المسؤولية بحيث لم يعد من سر امامه بل هو دخول مرحلة الصراع الجديدة التي – ربما- يكون خلاوي واحدا من خسائرها.

 كل المصائر في نهاية الرواية مفتوحة تواجه مرحلة جديدة ضاع فيها الحجا وارتفعت مناسيب ضياع جديدة.

"باب الدروازة" كرواية صياغة أخرى لتجارب عدة مر بها بلدنا، منفتحة على مرحلة زمنية جديدة يكون فيها أبطالها شهودا، وربما ضحايا مهر الروائي وتجسيدها ببراعة.