العراق بحاجة إلى شراكة من نوع جديد مع الولايات المتحدة

العراق 2024/04/14
...

• محمد شياع السوداني 

• ترجمة: أنيس الصفار 

قبل عقدين من الزمن ساعدت الولايات المتحدة الشعب العراقي على الإطاحة بنظام صدام حسين الدكتاتوري ووضع الأسس لبناء نظام ديمقراطي، بذا مكّنت العراقيين من تذوق طعم الحريَّة لأول مرة والقضاء على القمع وسوء استغلال الموارد اللذين تسبّبا بالمشكلات، لا لبلدي فحسب بل للمنطقة أيضاً على نطاق أوسع. منذ ذلك الحين شهدت العلاقات الأميركية العراقية أحوال مد وجزر، ومرّت بفترات شراكة ووئام وفترات تباعد وانقطاع، إذ كانت المواقف بين الطرفين تتقارب وتتوازى تارة لتعود فتحدق بها التوترات تارة أخرى. ولكن على طول المسار كان هناك إدراك مشترك بين القادة في البلدين أنَّ علاقتنا سوف تبقى أولوية ستراتيجية تكرّسها المصالح المشتركة والجود التعاوني لقهر الصعاب. معاً تمكنا من دحر الإرهاب، والتعاون الأمني بيننا مكننا من إعادة بناء الجيش العراقي وقوات أمن عالية الكفاءة. 

نحن اليوم بحاجة لحماية شراكتنا الستراتيجية من خلال الانتقال بها إلى مرحلة جديدة.. مرحلة تدعم سيادة العراق واستقلاله دون التخلي عن التعاون المثمر بين بغداد وواشنطن. في أواخر شهر كانون الثاني الماضي شكلنا معاً "اللجنة العسكرية العليا" المؤلفة من كبار المسؤولين العسكريين في الجانبين الأميركي والعراقي لكي تعمل على تقييم التهديد الراهن المتمثل بعصابات "داعش" الإرهابية، وقدرات أجهزة الأمن العراقية والظروف العملياتية في سائر أنحاء البلد. أسفر ذلك الجهد عن اتفاق جميع المعنيين من أصحاب المصلحة على وضع نهاية للتحالف الدولي بشكل متدرج ومنظم وفق جدول زمني متفق عليه (التحالف المذكور تشكّل بدعوة من العراق في العام 2014 لقتال "داعش" وهو يضم 86 دولة بقيادة الولايات المتحدة). من أجل المضي قدماً في ذلك سوف تعكف "اللجنة العسكرية العليا" على وضع خارطة طريق للعلاقات المستقبلية، بما فيها تواجد المستشارين الأميركيين. تلك التحركات، بدل كونها مؤشراً على تراجع مستوى علاقاتنا مع الولايات المتحدة، سوف تتيح لنا الانتقال إلى مرحلة جديدة من شراكتنا قائمة على أساس التعاون الذي يتخطى الشؤون الأمنية والعسكرية المجردة.


توازن دقيق

العلاقة الأميركية العراقية هي مفتاح الاستقرار في الشرق الأوسط، وكذلك لازدهار شعوب المنطقة. خلال السنوات الأخيرة كانت التوترات تنشب بين حين وآخر بين بلدينا نتيجة الصراع مع الجماعات المسلحة التي تواجدت في العراق على مدى العقدين الماضيين من السنين. هذه الجماعات نشأت من الظروف المعقدة التي واجهها العراق إبان تصديه للإرهاب، لكن شيئاً فشيئاً، ومع استعادة الأمن والاستقرار، سوف تنتفي الحاجة لوجود سلاح خارج سيطرة الدولة ومؤسساتها، وإننا نعمل وفق نسق متضافر صوب هذه الغاية.

أمام العراق طريق طويل ملؤه التحديات، وحكومتي تعي حساسية موقفها والتوازن الدقيق الذي ينبغي لها أن تحفظه بين الولايات المتحدة والجماعات التي تزج بنفسها أحياناً في صراع مباشر مع القوات الأميركية. بيد أنَّ رؤيتنا إزاء هذا الوضع جليّة لا لبس فيها: فنحن نرفض الهجمات التي تشن على المصالح الأميركية في العراق أو في الدول المجاورة. في الوقت نفسه نحن نحتاج إلى الوقت للتعامل مع التعقيدات الداخلية والتوصل إلى تفاهمات سياسية مع الأطراف المختلفة، وقرار الحرب والسلم يجب أن يكون شأناً محصوراً بيد الدولة وحدها، وليس لأي طرف آخر أن يدعي هذا الحق. 

لقد تمكن العراق بمساعدة أصدقائه- لاسيما الولايات المتحدة- من دحر أشرس تنظيم إرهابي عرفه التاريخ الحديث، واليوم لم تتبق من "داعش" سوى شراذم صغيرة تلاحقها قواتنا الأمنية في الفلوات والجبال وفي الكهوف، لكنها لم تعد تشكل تهديداً للدولة. هذا الصراع رفع مستوى خبرة قواتنا الأمنية بدرجة ملحوظة ووضعها بمصاف أفضل الجيوش في مجال مكافحة الإرهاب. بذا يكون الوقت قد أزف لطي هذه الصفحة وإعادة توجيه مواردنا وقدراتنا من خوض الحروب إلى تعزيز التنمية.

النصر النهائي على الإرهاب لن يمكن بلوغه بدون تنمية حقيقية، وهذا يشمل توفير مستويات لائقة من الرعاية الصحية والتعليم وغير ذلك من الخدمات الأساسية. هذا هو هدف البرنامج الذي تعمل حكومتي على تطويره وتعقد العزم على تنفيذه: برنامج قوامه التقدم بالإصلاحات الاقتصادية والمالية والارتقاء بحقوق الإنسان وتمكين المرأة وتعزيز مبادئ الحرية والديمقراطية بوجه عام. الشأن الحاسم الآخر هو مكافحة الفساد- الذي يمثل الوجه الآخر للإرهاب طالما أنَّ تأثيراته ليست أقل خراباً- وضمان أن تذهب أموال الشعب العراقي في مذاهب مجدية. علينا العمل أيضاً على تنويع اقتصادنا والنأي عن الاتكال على النفط وحده، ولو أننا نبقى نعول على موقعنا كثاني أكبر دولة مصدرة للنفط في منظمة "أوبك" (ناهيك عن امتلاكنا احتياطيات عظيمة من الغاز الطبيعي). صوب هذه الغاية نعمل على التقدم بمشاريع عابرة للحدود (مثل المناطق الصناعية بالاشتراك مع الدول المجاورة) و"طريق التنمية" الذي سيقوم مقام وصلة الارتباط لمنطقة الخليج بتركيا وأوروبا.

كجزء من هذا المسعى لدينا الآن فرصة لتحويل العلاقة بين العراق والولايات المتحدة من علاقة ذات وجه واحد إلى علاقة شاملة. لقد حان الوقت لتفعيل جميع بنود اتفاقية الإطار الستراتيجي الموقعة بين العراق والولايات المتحدة في العام 2008، فهذه الاتفاقية تذهب إلى مدى أبعد من الشؤون الأمنية والعسكرية المجردة، التي بقيت مهيمنة على العلاقة طيلة الشطر الأعظم من العقدين الماضيين، لتبرز صيغاً من التعاون في مجالات مثل الاقتصاد والاستثمار، والطاقة والمناخ، والزراعة والصناعة، والتكنولوجيا والتعليم. يستحق الشعبان العراقي والأميركي أن يريا منافع مستمرة من هذه الشراكة نظراً لما قدماه من تضحيات مشتركة. فالاستقرار الذي يعيشه العراق حالياً يجب أن يشجع الشركات الأميركية على أخذ دور لها في مشاريع تنمية مهمة في مجالات الطاقة والاتصالات والإسكان والرعاية الصحية والتعليم والنقل وأكثر. حاجتنا الملحة للخبرة والتكنولوجيا الأميركية تتوسع لتشمل الطاقة النظيفة والاقتصاد الأخضر، لأننا نهدف إلى تطوير قطاعات مستدامة ومتجددة. لقد أسست اتفاقية الإطار الستراتيجي الأرضية القانونية لهذه النشاطات، ومن خلال الاستثمار فيها سنتمكن من وضع العراق في موقع يمكّنه من الارتقاء بديمقراطيته وترسيخ دولته وتعزيز حكم القانون فيها.. وهي الأعمدة التي ستسمح لنا بإعادة العراق إلى ألقه التاريخي.


العراق أولا

المبدأ المرشد الذي يحدونا في علاقاتنا الخارجية هو: "العراق أولاً".. وهو يعني بناء علاقات شراكة قوية قوامها المصالح المشتركة مع الدول الصديقة داخل منطقتنا وخارجها. هذا المبدأ معناه أننا نتعامل مع جميع الدول وفق معايير المساواة، كي لا يتحول العراق إلى ساحة يصفي اللاعبون الخارجيون حساباتهم عليها. التعامل مع العراق يجب أن يكون على أساس السيادة والاحترام المتبادل لا على أساس اعتباره وكيلاً ينوب عن الآخرين في صراعاتهم.

لهذا السبب أيضاً نسعى لاستعادة العراق دوره المحوري في الشرق الأوسط مستغلين موقعنا الستراتيجي.

 إننا نرحب بفرصة العمل مع الولايات المتحدة لنزع فتيل الأزمات وخفض التوترات في منطقة الشرق الأوسط، لكننا رغم هذا مصممون على تجنب التورط في الصراع بين شريكين لنا هما إيران والولايات المتحدة. نحن نعتقد أنَّ التهدئة الشاملة وخفض التصعيد في الشرق الأوسط يصبان في مصلحة العراق والولايات المتحدة معاً، وهذا يتطلب قبل كل شيء وضع نهاية عاجلة للحرب في قطاع غزة واحترام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

عندما أزور واشنطن والتقي الرئيس "جو بايدن" في 15 نيسان ستكون تلك فرصة لوضع الشراكة الأميركية العراقية على أسس جديدة أكثر ديمومة. وسوف تتركز مناقشاتنا على الأهمية المستمرة لعلاقتنا الاقتصادية وتعاوننا في مجال مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، واستخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية لنزع فتيل التوترات الإقليمية، وسوف تبقى المعركة ضد الإرهاب موضوعاً مركزياً لحكومتينا معاً.

نحن نقرّ بالدور الحاسم الذي تولته الولايات المتحدة والأعضاء الآخرون في التحالف الدولي في محاربة "داعش" ودحر الإرهاب ونقدره حق تقديره، وقد ساعد هذا الدعم العراق على تحقيق الاستقرار وقطع أشواط مهمة على طريق الديمقراطية وسيادة القانون وضمان تفرد الحكومة دون سواها بحق استخدام القوة. لكننا نعتقد رغم هذا أنَّ الوقت مناسب الآن لتوسيع علاقتنا إدراكاً منا لتنامي قدرات قواتنا على الدفاع عن العراق وضمان أمن مواطنيه.. والمساهمة بأساليب فعالة في بناء عراق مزدهر ومستقر. شراكتنا بصيغتها الجديدة يمكنها أن تصبح مصدر منفعة متبادلة لبلدينا وقوة دافعة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط. 


• عن مجلة "فورن أفيرز"