عادل الصويري
المغتربُ في نصهِ، يقفز بين الأزمنةِ بسرعةٍ خيالية داخلَ النص، وما الذاكرة إلى مضمار سباقٍ بين الألفةِ مع الألمِ وتداعياته، وأسئلة الاغترابِ في المنفى الذي يبدو مشتهى في البداية قبل أن يتحول إلى زنزانة باردة، وفضاء رمادي من الاحتمالات.
إنها الذاكرة المنشطرة، بين الاستسلام لواقع الحروب، ومشاهد سقوط الأصدقاء فيها تباعاً بلا أي مبرر مقنع لذلك السقوط، فضلاً عن جوع العائلات، وبيع شبابيك النوافذ المنزلية لشراء الفاصولياء، من أجل توهم وجبة غداءٍ في حصار مستحيل على التخيّل، وبين الهروب القسري المبني للمجهول، إلى سنوات الأُلفة المستحدثة في مخيمات اللجوء، وتأمل الفضاء الصحراوي، قبل الاستقرار في المنفى، ومغامرة رمي الذاكرة في مراحيض النسيان؛ لصنع ذاكرة جديدة تبدو مستحيلة، عسى أن تنسجم مع متحف العواصم الأوروبية، والذي تفوح منه روائح تماثيل الكائنات المغتربة. تماثيل تمارس اغترابها وبرودها بذاكرة شبه معطوبة.
والذاكرة المغتربة تصنعُ مفرداتِها، وتنفخُ فيها روح الحياة. صحيح أنَّ جزءاً من هذه الروح يتعلَّق بالأُلفةِ الكلاسيكية القديمةِ أمكنةً وطفولةً؛ ذلك لأنَّ المُغتربَ لم يتصالح بشكلٍ كُلِّيٍّ مع اغترابه، فنراهُ يكتبُ عن ألمِ الأُلْفةِ الماضية في مدينتِهِ وأزقتِها، وطفولتِهِ ومشاكساتِها، ثم يتحوّلُ برمشةِ عينٍ، إلى كتابةِ المتعة القلقة في متحفهِ وتماثيله، في فوضى جميلة، واشتباك علاقاتي ممتع بين الأشياء.
وللذاكرة المنشطرة نافذتان مفتوحتان على الاغتراب العام والخاص، وكلا النافذتين مصابتان بالزمن، بالوجود الذي يقترف الذاكرة أو تقترفه لا فرق. فهي تنظر في مرآتها الخاصة مشاهد العام، حتى وإن كان صوتها الخاص عالياً، لكنه يبقى صوتاً مُندسّاً بتفاصيل عامة، ساهمت بشكل فاعل في تشكله وتشظيته بين العوالم المختلفة، وهو موجود في كل تلك العوالم، مؤدياً وظيفتيه: التدوينية والأخلاقية، مشتبكاً مع أُلْفَتِه واغترابه، مختلفاً معهما - حتى وصوله إلى الحقيقة - بالأسئلة الكثيرة عن العالم والمعنى، الوجود والعدم، الكتابة والأخلاق، وكأنه يعيد قول مكسيم غوركي: "جئتُ إلى هذا العالم؛ لكي أختلفَ معه".
تجريب بلا ذاكرة
في الموجة الحداثية التي اجتاحت أميركا وأوروبا مطلع القرن الماضي؛ كانت الكتابات التي مالت إلى التجريب قد ركنت الذاكرة جانباً، وهو ما أحدث غياباً مُقلقاً للخصوصية الابداعية، حيث ارتهنت النصوص إلى المحنة كلازمة أو ثيمة حاضرة عند الجميع.
لست هنا ضد تدوين المحنة الإنسانية، لكن قطعاً أتأسف نقدياً لتشابه الاسلوب التدويني لها رغم تعدد جغرافياتها، واختلاف ظروفها.
هذا التشابه حصل كنتيجة طبيعية لإهمال الحداثة للذاكرة، والوثوق المبالغ به بالذاتية المفرطة والمتطرفة، وبالتالي إنتاج نصوص عارية تماماً من الخصوصية.
تُرى ما الذي يمنع المحنة المكتوبة من أن تكون لها ذاكرتها الخاصة المختلفة عن الذاكرة الأخرى حتى وإن كانت تداعياتها الإنسانية واحدة؟
ليس من المنطقي لا على صعيد الزمان أو المكان تشابه المحنة النصية بين شاعرين مثلاً، أحدهما يكتب عن محنته خلال الحرب العراقية الإيرانية، بينما يكتب الآخر محنته التي عايشها في سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. صحيح أن الحرب وانكساراتها عنوانٌ رئيس لمحنة الشاعرين، لكن ماذا عن الظروف؟ ليس من المنطقي لهما أن يرهنا ذاكرتهما للتجريب، ثم يوحدا المحنتين عشوائياً؛ لإرضاء هوسٍ تجريبيٍّ على حساب أشلاء ورماد وانكسارات. هوس يشظي المشكلة، ويوحدها حداثياً على حساب حقيقتها، هروباً من هيمنة الذاكرة على النص، وهو وهم آخر، وخوف مُتخيل، يمكن موازنته مع الفعل الابداعي، باجتهاد المبدع في إنتاج الرؤية، بعد وضع الذاكرة في المشغل الفكري والرؤيوي خاضع لاشتراطات إبداعية خلاّقة، تجعل التدوين ينبض بالحياة من جديد، ويصنع المعنى المنطلق من ينابيعه الأولى وجذوره الراسخة.