ظلّ صورة فوتوغرافيّة

ثقافة 2024/04/16
...

 قيس عمر

    

في وسط الجدار المتصدّع ثمّة صورة فوتوغرافيّة يتيمة لطفل يجلس وحيداً، يبتسم وهو يحدّق في ظلّه الذي عكسته الشّمس أمامه، وكأنه يرى الظلّ لأول مرة، عين الطفل اليمنى تحدق في الظل، بينما العين اليسرى كانت تحاول التحديق في القطار، يجلس الطفل وحيداً على الأرض ويلتفّ حوله قطارٌ صغير محمول على سكّة السّير الخاصّة به، الدائرة التي يجلس فيها الطفل والمطوقة بالقطار الدائر حوله  يقبع فيها طابور من الدمى الصغيرة جداً، وقد رتّبها الطفلُ بانتظام كأنها تنتظر توقّف القطار لتركب فيه وينطلق بها، الدّمى الصغيرة شكّلت سطراً من الظلال الصغيرة، الظلال المنكسرة للدمى تتحرك صاعدةً عربات القطار تباعاً، بينما أجسادها متوقفة وساكنة لا تتحرك، الطفل لم يكن منتبها إلى مغادرة ظلال الدّمى وهي تصعد القطار، يد الطفل منهمكة بإمساك القاطرة الأولى (الأمّ) ودفعها إلى الأمام لتلحق بها المقطورات المتصلة بها من الخلف، يد الطفل تبدو قابضةً على القطار بقوّة واضحة بينما الشمس تظهر في الصورة متعامدة مع رأس الطفل كأنّها جثّة مصلوبة. 

الصورة قديمة وألوانها تكاد تضمحلّ وتبهت بشكل يجعلها مشوّشة ومتلاشية بفعل الرطوبة التي تسرّبت إليها من الجدار، وفي أسفل الصورة كُتبت عبارةٌ بخط حادّ ونحيف جعلها تنحفر على ورق الصورة، وتغرق في أخاديد تمّ تعميقها بالتحبير المتكرر لاحقاً: (طفلي الوحيد يدس أحلامه في قطار الحياة)، تلاشت ملامحُ الطفل – أو تكاد – من الصورة، وتباطأت حركة القطار السائر على السكّة حتى توقّف وتوارت جثة الشمس، وبقيت العبارة المحفورة أسفل الصورة تقاوم الرطوبة وتقادم الحياة وغياب الرائين إليها، وغابت ظلالُ الدمى في ظلمة عربات القطار بينما أجسادها بقيت على انتظامها السطريّ ولم تغادره.

كنت في العاشرة من العمر حين صرت مجرد ظلّ أي من دون جسد، حدث هذا عام 2004 في الخامس من كانون الثاني، كان الطقس بارداً جداً، وأنا في فراشي مستلقياً أرقب دخول المحاليل الملوّنة إلى جسدي عبر أنابيب كثيرة ومتداخلة مع بعضها، المحاليل الوريديّة الموصولة بجسدي تعكس صور ردهات المشفى، وتنقل إليّ أصوات الأجساد المعذّبة ورحلاتها الليلية وهي تُخترق بهذه المحاليل الكريهة، لتستقر مع مجرى دمائهم وتسافر فيما بعد معهم، وتكون مثل تمائم غارقة في عمق أرواحهم الذابلة.

بعد شهر من دخولي المشفى ركّبوا في ذراعيّ أنبوباً مختلفاً عن الأنابيب السابقة، موصولاً بوصلة بلاستيكية متشعّبة، علق في طرفها سائل كريه يسميه الأطباء (ليوستاتين) كان ينتقل عبر الوصلة الأنبوبيّة إلى يدي، شعرت بطعمه يتسلّل إلى فمي، شعرت برغبة في التقيؤ من أول يوم، وبقي هذا الاحساس المريرُ يلازمني طيلة مكوثي في المشفى، ثم سريعاً تساقط شَعري، ووهنت عضلات جسمي كلّها، وصار بي نحول غريب جعلني مجرد كومة عظام، كان هناك ألمٌ غريب يستوطن جسدي، عابراً حدود الاستطاعة والتحمّل، فكنت أبكي بحرقة مثل أيّ طفل أحياناً، ثم تساقطت حواجبي كليّاً، واختفى شعرُ رأسي بالكامل خلال شهرين، تصاحب هذا مع اسهال متواصل، ولم تفلح محاولات الأطباء في إيقاف أيّ من هذه الأعراض، كنت أشعر بنفق حلزونيّ يمتدّ أمامي مع كلّ يوم صحبة هذا العلاج الذي يسمّونه الكيميائيّ، كنت أكره هذه الكلمة، فهي سبب هذا الوضع الذي أنا فيه، فكرت بأصدقائي قرب بيتنا هل ينتظرونني؟، هل يلعبون دوني؟، أخبرتني أمي يوماً أنّ أطفال الحيّ يرغبون بزيارتي، لكن لم يحدث هذا، امتدّ النفقُ أمامي واسعاً كأن أحداً يدعوني إلى الدخول بقوّة إليه، نفق محاط بصور حياتي كلّها ترتسم على جدرانه، حياتي كلّها صارت مرسومة في داخل هذا النفق الذي انفتح أمامي، ومع مرور الأيام صرتُ لا أسمع أبي وأمي، وتصاعد الألم الرهيب عابراً حدود التحمّل، غبت عن الوعي ساعاتٍ لأفيق وأجد أمي تغسل وجهي في محاولة منها لخفض حرارتي والدموع في عينيها لا تغادرانها، كنت أنتبه إلى أبي أحياناً وأراه جالساً على الأرض قبالتي، مسنداً ظهره إلى جدار الغرفة واضعاً رأسه بين يديه، ناظراً إليّ من وراء أصابعه المتشابكة، وعيناه محتقنتان بالدموع والأسى، تراجعت كلّ الأشياء من حولي وانسحبت بقوة إلى خلف، وقبل توقف المحاليل الوريدية النازلة من الأعلى تلمّست تقطّع حبال طفولتي الصغيرة التي تربطني بالحياة، شاهدت أبي يرتجف ويرتعش بقوة من البرد، فأبي صاحب الأربعين عاماً بَرود جداً، بينما أمي كانت تشيح بوجهها عنّي وهي قابعة قربي. 

فُصِلت المحاليل الوريديّة أخيراً عن جسدي لأُترك في مواجهة المجهول المعلّق في سقف طفولتي.

أخرجني أبي من المشفى وحملني إلى البيت، لم أكن سوى جثة صغيرة تتنفّس بصعوبة بالغة، وعلى الرغم من هذا تصوّرت أني شُفيت من المرض الذي لم أكن أعرفه جيداً فقط كنت أسمعهم يقولون: (المرض الخبيث، أو ذاك المرض)، حاولت كثيراً الانصات إلى كلمة (خبيث) أو (ذلك المرض) وهي تقال، لكن لم أصل إلى نتيجة حتى فهمت عبر حركاتهم وملامحهم التي يلوكها الأسى ويترك روح أبي وأمي تتحلّب وجعاً كلّما نظرا إليّ، أنّ هذا المرض يهدّد حياتي بشكل حقيقيّ، وأنّ شفائي شبهُ ميؤوس منه، ويوماً بعد يوم صرت أتحوّل إلى كومة عظام صغيرة ملقاة على سرير منسي.

قبل موتي بيوم واحد فقط كنت أحسّ بالضوء قويّاً جداً، وأنّ سطوعه حادّ ومدمّر لما تبقّى مني، واصلت فتح عينيّ على الرغم من اللهب الذي يسبّبه لهما الضّوء، كنت أتحوّل إلى ظلّ شفيف يغادر جسده بين لحظة وأخرى ويرجع إلى مكانه.

كأنّ أحداً ما في داخلي كان يجرب الخروج من السرير ليختبر أقدامه لأوّل مرة، اختبرت الحالة هذه مراتٍ عدّة مثل أيّ طفل يجرّب لعبة جديدة، ومع اندماجي في لعبة الظّلال التي تمتلك خفّة غريبة فهمت أنّ الظلّ هو حياتي الجديدة التي لن تكون خاضعة لكلّ القوانين التي قيّدت جسدي بتلك الأعوام العشرة، كنت أتحوّل إلى ظلّ ينتقّل عبر الجدران وينفذ من خلال الزجاج ويحلّق دونما أجنحة على الرغم من تجمّد المخيلة الطفولية وغرقها في طعم المحاليل الكريهة، ومثل أيّ طائر كنت أجوس المسافات والفراغات الهائلة التي تشكّلت بين الأرض والسماء، وبعد أن أحكمتُ السيطرة على ظلّي تركت المتبقّي الشّحيح من حياتي وحلّقت في الأعالي الرحبة للموت، شاهدت ألعابي تحلّق معي ووجوه أصدقائي ترافقني وهي تحيط بي مثل هالة من الفقد والضّياع، تطوّقها الدعوات والدموع والتنهّدات التي تبرق من حين لآخرَ، حلّقتُ بملابس العيد التي تنتظرني، بينما مراجيح الحياة التي أغفلتها الأعياد كانت تدور بعيدة عني وهي فارغة من الوجوه والأجساد.

في لحظة غريبة تخللها ألم عميق انغرز في كلّ مسامات جسدي شعرتُ أنّي في بيتنا، شاهدت أبي وأنا افتح عينيّ بسبب قوّة الألم الرهيب، فاصطدمتا بعينيه اللتين كانتا في تلك اللحظة تشبه عيني نسر يحترق، فيهما بريق وسحر غريبان، بينما وجه أمي يطلّ من وراء كتف أبي وهي غارقة بدموعها، شاهدت أبي يسقط حولي وهو يتناثر ويتحوّل إلى قطع تتناثر في الغرفة بقوة هائلة، شعرت بضوء حادّ يلتمع في الغرفة، بينما أبي يواصل سقوطه عليّ مثل مطر عنيف، كنت في آخر لحظة من حياتي أشعر أنّ أبي يوزّع نفسَه ويمزّقها من قوة الألم، سامعاً صوت حشرجاتي الأخيرة تتعالى في الغرفة، واصل أبي تناثرَه حتى تلاشى من أمامي تماماً، وهكذا توقفت حياتي وسكن جسدي النحيلُ تماماً، كنت خيطاً شحيحاً من الوهن أتصاعد نحو الفسحة العالية والرحبة للغياب، بينما أبي يواصل سقوطه عليّ، تعالى صوتُ تناثر أبي وأنا أنطمس في لوح الغياب، شعرت أني صرت مجرّد اسم مشطوب بعنف من لائحة الأرض الكونيّة، تواصل تناثر أبي بينما عيناي شاخصتان بشكل يناسب ايقاع حشرجتي الأخيرة، وقبل آخر اغماضة لي تداعت سيرةُ أبي وصارت مثل تميمة عزلاء تحرس غيابي السرمديّ، شاهدتُ في آخر اغماضة كلمات أبي الحالمة تحاول اختراق روحي لتمدّني ببعض الحياة، أحسست به يستلّ كلّ ذكرياته معي ويجعلها مثل تميمة تحاول طرد الفقد والخوف والوحدة، كانت الطاقة التي يرسلها أبي نحو جسدي كفيلة لحرْق العالم بشكل وحشيّ، استشعرت بطاقته تندسّ في روحي وتعيدني إلى الحياة. 

تسامى كلّ شيء في جسدي، وتحوّلت إلى مجرد ظلّ يعيش على حافّة العالم متبوعاً بوجع الأب الكبير، لم يكن أبي قادراً على رؤية ظلّ ما تبقّى من طفله الوحيد.  وقبل أن يغادر أدرك الظلُّ أنّ الأب قد نزع حجر الزاوية من روحه وزرعه في جسد ولده المسرطن؛ ليكون في الأقل ظلاً هائماً حول الحياة التي توارت، كان الظلّ يدرك أنّ الأب لن يعيش طويلاً، غادر الظلّ بيته وعاش في لوح الظّلال اللائذة بالمحو، محلّقاً حول بيت الأب مثلَ صرخة مبتورة قطعتها سيرة الأيام وظلال اللعب جوار صِبية العالم وهم يلوحون للحياة بتنويمات الأمّهات وخوف الآباء وهم يغيبون في تعب الحياة. 

بقيت سيرتي مثل ذكرى عطر حزين تواصل هبوبها صعوداً نحو لوح الفقد والغياب، بينما أبي يواصل تحليقه ليكون ظلاً آخر ملتحقاً بحياة الظلال المتلاشية.