المحتوى الدائري للنص الروائي

ثقافة 2024/04/16
...

  وارد بدر السالم


(1) ما يزال الكون غامضاً ومعقداً وملتبس الفهم علينا، لهذا لا تتوقف النظريات والكشوفات والمحاولات العلمية عند أفقٍ معين. 

فالكون مترامي الأطراف وواسع المجهولية، ولم تطفُ منه غير رقائق من المعلومات المتاحة منه حتى اليوم.

وكل ما تم استحصاله هو شذرات علمية وإن كانت مهمة، لكن الغاطس في الكون هو الأهم كما يشير علماء فلكيون إلى ذلك. 

ونرى أن العلم في تركيزه على الكون أو الأكوان السماوية إنما يحاول الوصول إلى أسرار وخفايا أكثر أهمية مما ظهر إلى اليوم. 

حتى في نظريتَي آينشتاين النسبية والخاصة بإضافة الزمكان إلى الأبعاد الثلاثة (الطول- العرض- الارتفاع) والمُسلّم بها منذ قرون، أضافت لها نظرية الأوتار الفائقة أبعاداً أخرى بعدَ بُعد الزمكان الرابع. 

بمعنى أن العلم لا يتوقف عن (الإنتاج) والمعرفة وكشف الأسرار للوصول إلى آفاق علمية عظيمة.


(2) الكون الأدبي هو أيضاً عالَم واسع وثري وغائر في الزمن، وإذا كان العلم يكتشف ويضيف، فأن الآداب والفنون بمجموعها تخلق وتبدع بمضاعفة الخيال. 

فالعلمي واقعي، والأدبي خيالي. ولا شك أن الواقعي في هذه الحالة هو الأقرب إلى المنطق العقلي، لكن الخيالي هو كذلك إضافة مشروعة إلى الوعي العقلي الذي ينشغل بما وراء نظريات العلم والآداب، ويتمدد في استقطاب الحالتين: الواقع والخيال.

على سبيل المثال الأدبي: طارت إلى السماء اثر هبوب رياح قوية إحدى شخصيات ماركيز في روايته الفذّة " مائة عام من العزلة" وهي أورسولو. 

ثم اختفت ولم تظهر في الرواية لاحقاً.

على سبيل المثال العلمي: لم يُحْسَم شكل الأرض بعد. 

فلقد عاد السجال من جديد: هل الأرض كروية ودائرية أم هي مسطحة أم بَينية أم مستديرة أم ممتدّة.

ومثل هذا السجال فيه ذكاءً وفطنةَ وعِلم يتطلب أشواطاً من الكشف والرؤية والمطاولة الفلكية الواعية؛ فعلوم ما بعد الحداثة، تحاول كل يوم أن تقترب من الأكوان البعيدة وتفسر شكلها ووجودها وماهيتها وعلاقة أرضنا بها. 

بينما راح المفسرون الدينيون يُعيدون تفسير سور كثيرة من القرآن الكريم، للوصول إلى حقيقة شكل الأرض عبر السور والآيات التي تذكر الأرض في محاولة تفسير (دحاها.. بسطها..) وغيرها من التلميحات التي تبتعد عن دائرية المعنى وكرويته ، وتميل - ظاهرياً-  في الأقل إلى أنها منبسطة.

الهندسة الاقليدية القديمة تقول إن كل خطين متوازيين لا يلتقيان مهما امتدا.

بينما هندسة ما بعد الحداثة، ترى أنهما يلتقيان، لأنهما ينحنيان مع الأرض الكروية، فيعودان إلى نقطة الصفر من حيث ابتدءا. 

أي يلتقيان بالضرورة والنتيجة. 

وما بين الهندستين، يجري الجذب المعلوماتي الغزير في انحناء الأرض ككرة، وبين تسطيحها كبساط معلق في السماء بفعل تجاذب الكواكب في ما بينها.


(3) هل يمكن لهذه المعلومات العلمية الأولية أن  ينعكس شكلها على النصوص الأدبية ويُستفاد منها عندما يكون النص الأدبي متتبعاً لها؟ فالعلم من حيث السبق قد يكون أقدم من الأدب لو قرأنا ما تركته الحضارات القديمة من علوم وعمران وهندسة وفلك (الاهرامات مثلاً) لكن للأدب تاريخه العميق أيضاً، فالكاهنة أنخيدوانا الأكدية (ابنة سرجون الأكدي) تُعد أول شاعرة تاريخياً، وقيل سافو الإغريقية هي أول من كتب الشعر. 

وفي التاريخ المعاصر وإلى القرن الحادي عشر تُعد رواية "حكاية غينجي" لليابانية موراساكي شيكيبو أول رواية معاصرة، أي تفصلنا عنها عشرة قرون تماماً. يومها لم تكن الرواية ماثلة في الثقافات العالمية.

(4) يمكن الجزم بأنّ الإبداعات العلمية والأدبية يمكن لها أن تستوعب بعضها نظرياً في أقل تقدير لتقديم أطروحتها الشكلية على أساس الإفادة منها، والنظر اليها لا على أساس الأسبقية التاريخية، بل على أساس أن العلم بإمكانه تغذية الأدب بمواصفات ومطابقات شكلية لا مضمونية، وهذا يمكن ملاحظته بشيء من التدقيق والفرز النقدي، فعندما يكون العلم رديفاً للأدب من بابه الشكلي سيكون التأطير النظري له مناسباً، بالفحص الإجرائي، وهو ما نراه هنا، بأن النص الروائي بشكل عام هو نص دائري، الكلاسيكي منه أو 

المعاصر. 

شبيه بدوران الأرض حول نفسها (حتى لو ثبت أن الأرض ليست كروية) فالموروث النفسي الطويل قال إن الأرض تدور حول نفسها بشكلها الكروي وبالتالي، ولذات الموروث الباطني، فأن النصوص السردية على مر الزمن والاتجاهات والتيارات بقيت تدور على نفسها (بداية ونهاية) كالدورة الدموية في دورانها الجسدي، بالرغم من الاشتغالات الفنية المتعددة على مر التاريخ السردي وشيوع نظريات نقدية غير قليلة تستوعب الأثر السردي بالطرق النقدية كلها. 

لنرى هذه التعددية الدائرية المتوالية هي التي تُنتج النصوص السردية 

عامةً. 

لتُقيم الصلة بين الماضي والحاضر كلياً. وبالتالي تقيم صلتها بين اللغة والشكل الدائري لها.

ومن ثم تقيم صلتها الموضوعية مع القارئ عبر الجذب النفسي- المغناطيسي. 

أو ما نسميه بمتعة القراءة والتشويق الضامن لانسيابية السرد، وصولاً إلى الهدف الروائي.


(5) قد يكون هذا تبسيطاً بملامح غائمة غير واضحة كلياً، لكن الهدف المركزي هو أننا نحتاج إلى التوازن الفني في الشكل الذي يستوعب ما نسميه بالحدث، فـ ألف ليلة وليلة كانت ذات شكل إطاري متوالد مع أنسجة الحكاية الشهرزادية ، وفي "خريف البطريرك" عند ماركيز كان الشكل السردي ذا نسق استرجاعي ماضوي لصيقاً بحاضر الرواية في استعادات دائرية لأزمنة ماضية، والشكل الواقعي حاسم في روايات نجيب محفوظ بدائرته الشعبية التي لم يخرج منها كثيراً. 

بينما اقتضى شكل "عوليس" لجيمس جويس أن يكون غير معتاد بدورانه اللولبي وتداخلات الأزمان فيه.

وسنفهم من هذه الأمثلة السريعة أن دائرية الشكل معتمدة في هذه البينات الروائية. 

تبدأ وتنتهي. ككل حكاية ومسرودة قصصية. حتى لو لم تكن الأرض كروية، فالنسق النفسي عند مؤلفيها هو نسق وراثي في العلوم الابتدائية، ولم نقرأ حتى اليوم سرديات تشذ عن معلومة دائرية الأرض، لتصبح الرواية غير دائرية في شكلها العام. 

إن كانت عاطفية أو تاريخية أو أسطورية أو توثيقية. وبالتالي يتطلب من المؤلفين الخروج إلى الخيال اللانهائي، والتعاضد مع الكون شكلياً في الأقل..  


(6) الثورات التي قادت العالم إلى التحضر، منذ الثورة الزراعية وحتى ثورة المعلومات الإلكترونية التي نعيشها، كفيلة بأن تنشّط خيال الكتّاب في أي مكان في الرؤية والرؤيا ومعادلة الحياة السردية بأنواع كثيرة من الأشكال الروائية والشعرية في بنيتها الفنية ومعمارها الذي يواكب عصرها، فالكثير مما قرأناه هو انعكاسات لطبيعة المجتمعات وما فيها من علوم وتراث وشعبيات وخلفيات لحضارات مندرسة، لكننا لم نجد البُعد الرابع الذي أحدث انقلاباً في العلوم الفلكية، سوى "سرقة" المصطلح والتنويع عليه نقدياً. 

لذلك نرى أن الأنماط الروائية وغيرها لم تقترب من العلم إلا بحدود الروايات العلمية الخيالية. 

مثلما لا نجد أي متغيرات علمية أفرزت رؤاها الشكلية في السرديات، لأنها بتقديرنا ليست موروثة مسبقاً، بل هي جديدة، ونظن أن الأمر يحتاج إلى عقود طويلة وأجيال أخرى لتهضم  المتغيرات التي يأتي العلم بها.