التشكيلي أمير الخطيب لـ { الصباح }: العرب يعانون أميَّة بصريَّة

ثقافة 2024/04/16
...

 حاوره: أمجد طليع

بدأ ممثلا في العام 1979 في محافظة النجف الأشرف وبعد أربع سنوات حصل على جائزة أفضل ممثلٍ في مهرجان مسرح المنتديات في العراق الذي أقيم في الأنبار عن مسرحيَّة (لماذا) وبعدها بعامٍ حصل على جائزة أفضل مخرجٍ في المهرجان نفسه ولعامين متتالين، أما الرسم والألوان فكانتا موهبة ترافق موهبة التمثيل، يضع أفكاره على لوحاتٍ ورقيَّة أو على الجدران ويستلهم بعض الأفكار من الأعمال المسرحيَّة التي يشهدها، كما حصل على تقدير مع مسرحيَّة {الملك لير} لصلاح القصب التي استلهم منها ثيمته التشكيليَّة الأولى حينما كان يرسم موديلات داخل توابيت.

في العام 1987 هاجر باحثاً عن الحريَّة، فوصل الى باكستان وفيها أصبح الرسم مهنة لكسب العيش، حتى العام 1990 عندما انتقل الى فنلندا لاجئاً ليبدأ مرحلة فنيَّة جديدة.

في سن 29 عاماً كان من الصعب أنْ يهضم (الحسچة) في اللغة الفنلنديَّة لتصل عروضه الى الجمهور كما يريد، فتفرغ للرسم وهناك كوَّنَ عالمه التشكيلي الخاص، يرسم ويكتشف وينظر للتشكيل، كل هذا وضيفنا أمير الخطيب لم يدرس التشكيل بشكله الأكاديمي العلمي، إنَّما درس تاريخ الفن ومن التاريخ اكتشف أسلوبه الخاص متأثراً بتجربتين: ألمانيَّة وبرازيليَّة، فوضع لنفسه منهجاً خاصَّاً متخذاً من الفن التركيبي أسلوباً 

خاصَّاً به.

بناءً على ما يؤمن به أمير الخطيب بأنَّ التشكيل اليوم فكرة، الأهم أنْ تجدَ الفكرة قبل أنْ تضعها على القماش أو الورق. 

معبراً عن امتعاضه تجاه صعوبة فهم الفكرة بالتشكيل عنده الجمهور العربي.

"الصباح" التقت التشكيلي العراقي أمير الخطيب المقيم في فنلندا وحاورته عن تجربة الاغتراب وكيف أثرت في فكره التشكيلي وما هو حصاد أربعة واربعين عاماً من العمل بين الألوان والأفكار والتنقل بين الثقافات.


الثقافة الثالثة

* تنقلت بين دول عديدة، ثلاث منها أقمت فيها والكثير خضت فيها تجارب فنيَّة، الى أي ثقافة تنتمي؟

- تعلمت التمثيل والتشكيل في العراق، وفي فنلندا درست الماجستير ودرست الدكتوراه لمدة سنتين في تاريخ الفن وأقمت أول معارضي في فنلندا وكان يرافق هذا كله موضوعي الأثير وهو (الثقافة الثالثة) الثقافة التي أنتمي إليها وهي التي تولد من ثقافتين، أنا عراقي أعيش في فنلندا نتاجي الفني نتاج ثقافة ثالثة متأثراً بخليطٍ من الثقافتين.

اختياري لموضوع الهجرة كمادة لأعمالي جعلني أهتمّ بأبناء هذه الثقافة إنَّهم مميزون وفيهم مواصفات تمنحهم هذا التميز.

هناك دراسات عالميَّة عن الثقافة الثالثة تقدر بألفٍ وخمسمئة دراسة، بدأها الأميركي (سي. بي. سنو) عام 1959 وتحدث عن موضوعات تتعلق بالطفولة، أما من تناولها ثقافياً فهو الأميركي الآخر (جون 

بروكمن).

لذلك كنت أظنّ أنَّني صاحب المصطلح وعندما شكلنا (شبكة التشكيليين المهاجرين في أوروبا) كتبت البيان الأول باسم الثقافة الثالثة، لكنْ بعد البحث اكتشفت أنَّ هذا المصطلح مطروحٌ وأنَّ هناك دراسات عالميَّة بالمئات عنه.


* أنت رئيس شبكة التشكيليين المهاجرين في أوروبا.. هل هذه الشبكة نتاج فكرة الثقافة الثالثة؟

- نعم.. انبثقت الشبكة في عام 1997 وكتبنا بيانها الأول كما ذكرت باسم الثقافة الثالثة، وكانت منظمة مؤثرة حتى العام 2015 تقريباً، ظهورها تزامن مع إعلان الاتحاد الأوروبي عام 1995 وانضمام فنلندا الى ذلك الاتحاد وفي هذه الفترة كان الشغل الشاغل للأوروبيين هو الاندماج ومجتمع متعدد الثقافات وعلى إثر ذلك حصلنا على دعمٍ مادي ومعنوي لا محدود وكنا مؤثرين ثقافياً واجتماعياً الى أنْ حصل تغييرٌ سياسيٌّ بعد وصول أحزاب اليمين الى السلطة عام 2015، وهؤلاء نقيضُ كل شيء لا وطني (محلي) وعلى إثرها توقفت العديد من المنظمات على شاكلة 

منظمتنا.

كنَّا نصدر مجلة (الألوان الكونيَّة) ونقيم المعارض والنشاطات الثقافيَّة وصدرنا العديد من المؤلفات الخاصة بالتشكيل، كل ذلك ترك أثراً وحظى باهتمام الناس.


الخصوصيَّة والتميز

* تكتب وتدير منظمة وترأس تحرير مجلة وتتابع إصدارات المنظمة، وسط كل هذا هل كونت أسلوباً تشكيلياً خاصاً بك؟

- عام 1992 أقمت معرضي التشكيلي الأول في مدينة توركو الفنلنديَّة وكان خليطاً من الأساليب والمدارس، كان المعرض يفتقد للشخصيَّة الواضحة، عام 1994 أقمت معرضي الشخصي الثاني وأيضاً لم أجد شخصيتي التشكيليَّة ولم أحدد هويتي في هذه التجربة، الى أنْ تمَّ قبولي في الدراسات العليا وهذا الذي شجعني على البدء بمشاريع فنيَّة ذات مديات أوسع، وكانت البداية بإقامة معارض ضخمة ومشتركة وكان أول معرضٍ عام 1998 واشترك فيه فنانون من مختلف أنحاء العالم ومن ضمنهم الفنان العراقي الرائد (عزيز سليم) رحمه الله، وبعد هذا المعرض بعامٍ واحد وجدت نفسي وحددت أسلوبي الخاص والذي ممكن أنْ أتميز به فكان (الفن التركيبي)، وعندها أخذت أركب الأشياء وفقاً لأفكار محددة، وركزت اهتمامي على هذا النمط من التشكيل وتقريباً تلاشت عندي اللوحة المسنديَّة، وبدأت أضع سينوغرافيا لأعمالي وكتبت عن هذا الموضوع مقالاً عن (سينوغرافيا العمل التشكيلي) وهكذا ولد أسلوبي الذي أشتغل عليه.


* من أين استقيته.. كيف ولدت الفكرة؟

- إنَّه ليس بعيداً عن اختصاصي الأول (المسرح)، فما أقوم بتنفيذه قريبٌ للديكور، لكنْ فيه أفكارٌ تشكيليَّة، بالتحديد فكرة (صورة). 

من الأعمال التي نفذتها قارب في جذور أو طائر فيه جذور، إنَّه قارب أو طائر حقيقي لكنْ أنا اشتغلت عليه وأعطيه رمزيَّة أخرى، الكثير من النقاد قالوا إنَّه تأثير بالديكور، لكنْ في الواقع أنا مسرحت اللوحة التشكيليَّة أو كما قلت إنَّه (سينوغرافيا). 

إضافة الى أنَّه امتدادٌ لعملي الأول كمسرحي، فإنَّ من أسباب اختياري لهذا الأسلوب هو الاطلاع والمتابعة، فقد حضرت في ألمانيا معرضاً تشكيلياً خاصاً بالأعمال التركيبيَّة وأثار إعجابي عملٌ لفنانٍ ألماني صور ألمانيا على شكل غرفة وبابها مغلق بالزجاج وداخلها أنقاضٌ وكتب هذه ألمانيا، وقفت أمام العمل ودفعني للتفكير: ماذا يقصد بهذا العمل، وأيضاً شاهدت عملاً لفنانٍ برازيلي في إحدى الدول الأوروبيَّة مستوحى من الفكرة التوراتيَّة لبرج بابل، صنع برجاً من الراديوهات وكلها تعمل وكل راديو يبث بلغة مختلفة عن الأخرى، الصراحة أدهشني هذا الربط بين الفكرة والعمل والقصة التاريخيَّة لهذا العمل فكان تأثيره كبيراً فيَّ لأنها كانت أفكاراً عظيمة بغض النظر عن منفذيها.

الآن في فن ما بعد الحداثة والفن المعاصر يعتمد الفكرة بغض النظر عن التقنيَّة وحتى الجمال لم يعد ذا أهميَّة، الآن الفكرة هي التي تخلق الدهشة وأهميَّة العمل.


* هل أسهم وجودك في فنلندا بولادة أسلوبك الخاص.. فربما لو كنت في العراق واختصاصك التشكيل لكان اهتمامك مختلفاً؟

- الحال كلها اختلفت في فنلندا فقد وصلت معبأً بالعقد النفسيَّة والضغائن والأحقاد، أنتقصُ من هذا وذاك وأنظر للآخر بنظرة لا أعرف ماذا أسميها، لكنْ تدريجياً استعدت عافيتي الإنسانيَّة وتسلل الأمن والسلام الى داخلي فكانت هذه الإضافة، العافية الإنسانيَّة والأمن والسلام تأخذك الى القدرة على الابتكار. 

فعندما قدمت مسرحاً في فنلندا لم أوفق لأنَّ لكل بلد (حسچة) خاصة به وهذه الحسچة تختلف من مدينة الى أخرى والحسچة لا تشمل الكلام فقط وإنما الإيماءة وحركة الجسد وغيرها. 

هذه التفاصيل لا تتعلمها وإنما تكتسب وتكتسب بالتنشئة المبكرة في البلد وليس بعد الثلاثين من العمر.

لدينا في فنلندا الفنان العراقي حسين البزوني يعمل مع أهم مخرجٍ في فنلندا وأوروبا السيد (اكي كاورس ماكي) الذي عمل روائع السينما الأوروبيَّة فحسين البزوني وصل طفلاً ويعرف هذه الحسچة وهو الآن فنانٌ كبيرٌ وناجحٌ في فنلندا، أنا واجهت صعوبة في الحسچة لذلك لم أستمرَ في التمثيل، لكنْ لم أتوقف، ذهبت الى التشكيل وفي التشكيل انتهجت خطاً خاصاً بي، وهذا يؤكد أنَّ البيئة أو فنلندا نعم أسهمت في وصولي الى ما أنا عليه وما اخترت.


* لكنْ عندما أشاهد أعمالك كلها تقريباً مرتبطة بالجذور، أليس لهذه دلالة خلاف ما تقول؟

- أعمالي أغلبها تتحدث عن الهجرة. وأول عملٍ موضوعه الجذور كان اسمه الرحيل، عبارة عن 17 لوحة، عرض في متحف مدينة نرمس شمال فنلندا، والرمزيَّة هنا واضحة، إنَّ المهاجر لا يمكن أنْ يتخلص من جذوره الأصليَّة بأي شكلٍ من الأشكال، لأنَّ الموضوع الذي يشغلني هو الهجرة والمهاجرون (أبناء الثقافة الثالثة) ثم تعددت الأعمال من هذا النوع وأغلبها أعمالٌ تركيبيَّة، مثل النورس الذي وضعت له جذوراً ذهبيَّة وهذا العمل اقتنته وزارة الثقافة الفنلنديَّة، وهناك أعمالٌ أخرى تناولتُ فيها موضوع الجذور في إشارة الى الهجرة، فاذا كان أسلوبي التركيب فإنَّ موضوع أعمالي في الغالب هو 

الهجرة.


* لديك مشاركات عربيَّة واسعة سواء من خلال إقامة معارض لتشكيليين على قاعة الغاليري الذي تديره في هلسنكي أو من خلال مشاركاتك في معارض ببغداد والقاهرة والرباط وتونس وغيرها.. ما الذي يختلف عندما يكون المعرض على أرضٍ عربيَّة أو لجمهورٍ عربي؟

- في العالم العربي اكتشفت أننا سواء كنا جمهوراً أو تشكيليين أو أكاديميين لا نعرف قراءة اللوحة التشكيليَّة، مهما كانت الأفكار بسيطة لا يمكنهم قراءتها، وهذا ينعكس على التشكيلي نفسه تراه يخرج بلوحاتٍ تحمل أفكاراً بسيطة، لدينا في العراق تشكيليون بأفكارٍ عميقة أمثال علي النجار وضياء العزاوي ومحمد مهر الدين، لكنَّ هناك أعمالاً بسيطة سببها عدم قراءة 

اللوحة.


* من أين يأتي العمق ومن أين يأتي فهم اللوحة؟

- العمق تراكمٌ تاريخي، التشكيل منتجٌ أوروبيٌ يعتمد على الإشارة والدلالة، مثلاً الأشكال ترمز لشيء ما مثل (الصليب والهلال) لهما دلالات دينيَّة معروفة، وكذلك اللون، فعندما تبدأ الرسم لا يمكن أنْ تضع لوناً على اللوحة من دون قصد، فالعمق يعني أنْ تختارَ اللون والأشكال المرسومة كأنْ يكون مربعاً أو مثلثاً لهدف ما ودلالة ما، وليس مجرد تناسق ألوان أو اختيارات عشوائيَّة. 

وبالمحصلة هذا يأخذنا الى فهم الصورة وفي عالمنا العربي نعاني من (الأميَّة البصريَّة) وهذه الأميَّة لا تقتصر على التشكيلي والناقد أو المهتم وإنما تصل الى المستوى 

الشعبي.


* كيف ذلك؟

- أنظر وأنت تتجول في شوارع دول أوروبا أو شرق آسيا أو أميركا أو أستراليا مثلاً، تلاحظ الشوارع مليئة بعلامات الدلالة والمباني والأزقة معنونة ومسماة ولا تعاني عندما تذهب الى أي مكانٍ وتصله بسهولة، بينما معظم الشعب العربي - إنْ لم يكن كله - عندما يقصد مكاناً يعتمد على السؤال والوصف، لأنَّ الصورة في الشارع إنْ كانت تحمل رمز دلالة أو رقماً أو اسماً لا تثير اهتمامه، مثلاً إذا حصل حريق في بناية في دولة أوروبيَّة ومثله في دولة عربيَّة تجد عدد ضحايا الحريق في البناية بالدولة العربيَّة أكثر لأن الأوروبيين تتبعوا علامات الدلالة في البناية من علامات الخروج وسلم الطوارئ وغيرها فأنقذوا  

أنفسهم.

هذا يأتي من تراكمٍ تاريخي وتراكمٍ علمي ومعرفي، فالأوربيون تثيرهم الصور والدلالات والإشارات وهم منذ القدم اكتشفوا الايقونة وصنعوا التماثيل كما فعل الاغريق والرومان وتفوقوا على المصريين والعراقيين القدامى في شكل التماثيل، أما في العصور المتقدمة وتحديداً ما بعد الأديان، فكانت الايقونة جزءاً من الديانة المسيحيَّة وواجبة في البيوت، بينما لدى أديانٍ أخرى موقف آخر من الرسوم 

والمنحوتات.


* بعد تجربة امتدت أربعة وأربعين عاماً.. ما الذي اتضح لديك؟

- إنَّ الفنان إذا انتمى (سقط) وإنَّ الفن نتاجٌ إنسانيٌّ لا يمكن أنْ يجيرَ لجهة ما أو جغرافيا معينة.