النسويَّة.. من باربي الدمية إلى التجسيد الأنثوي

ثقافة 2024/04/17
...

صفاء ذياب

شكّل فيلم باربي الذي عرض العام الماضي موجة متناقضة من التصريحات بين صنّاع الفيلم والنقّاد والجمهور، فكلُّ جهةٍ من هذه الجهات تقدّم ما تراه مناسباً في قراءة هذا الفيلم، أو البحث عن النسوية بحسب الميول والتوجّهات الفكرية.
فالفيلم الذي أخرجته غريتا غيرويغ تجاوز أية إيرادات في تاريخ السينما العالمية، إذ تجاوزت إيراداته المليار دولار في أقل من ثلاثة أسابيع فقط، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه ميزانيته 145 مليون دولار، وبهذا كانت مخرجة العمل أول امرأة تحقّق هذا الإنجاز كمخرجة فردية.وفي تقرير صحفي لها، أشارت شيماء محمود إلى أنَّ أحداث الفيلم تنقلنا إلى أرض باربي، وهي مدينة “مثالية”-بنظر صنّاع العمل-، حيث لكلِّ باربي وظيفة رائعة على قدم المساواة مع الرجال، وكما تقول الممثلة هيلين ميرين بصوت ساخر: “حُلّت كلُّ مشكلات النسوية وحقوق المرأة”، هكذا قالت مجلة “تايمز” الأميركية في تقديمها عن الفيلم. كما أشارت المجلة إلى أنَّ الفيلم قدّم صورة مثالية عن “باربي” التي تقضي الليل في أمسيات تُظهر فيها جمالها وثقتها، بينما “كين” هو شريك رقص مريح، وحتَّى عندما أرادت البحث عن إجابات في عالم الواقع كان “كين” مجرّد “إكسسوار” في حياة أحلام باربي في رحلتها للاستكشاف. ورأى المقال أنَّ “باربي” ربَّما ينتقد الحياة الراهنة المتوتّرة للعلاقات بين الجنسين، مع تقديم دعم للفتيات، وتقديم وصلة موسيقية مميّزة.
وهكذا يعيدنا الفيلم إلى الجدل الذي أثير حول الدمية (باربي) منذ بداية تصنيعها قبل 66 عاماً، حتَّى أصبحت أيقونة الثقافة الشعبية.
باربي التاريخ
في دراسة لها، تقول غونكا أونكو: إنّ باربي ترفعُ مقولة: “بمقدور الفتيات أن يفعلنَ أيّ شيء”، وتروّج لفكرة قدرة النساء على التغلّب على العوائق بأنواعها كافة واتخاذ القرارات في الحياة. لقد خُلِقت الدُمية باربي بوصفها ظاهرةً تتصل بالموضة والأزياء، ولذا، ظهرت في صورة امرأةٍ متكاملةٍ ومتناسقة القوامِ وجذّابة. وبالطبع، يُقابل الأطفال، ولاسيّما الفتيات، في سنٍّ مبكّرةٍ صورة المرأة المتكاملة هذه ويرغبون في أن يكونوا مثلها فيقلّدونها في كلِّ شيء. ونتيجةً لذلك، ينشأ الأطفال وهم يحملون صورة المرأة الأنثى الفائقة هذهِ في أذهانهم، مع ما يحمله ذلك من تأثيرات سلبية في عملية تنشئتهم الاجتماعية وتحديد أدوارهم الجندرية في ظلِّ شيوع صورة الجسم هذه غير الواقعية ونمط الحياة الكاملة.
جاءت فكرة “الدُمية باربي” التي صنعتها سيّدة الأعمال والمخترعة الأميركية روث ماريانا هاندلر بعد مشاهدتها لابنتها وهي تلعب مع فتيات ورقيّات من مجلّات الأزياء بدلاً من اللعب مع دُماها. وبعد مرور الوقت تحوّلت هذه الدمية إلى أيقونة عالمية للجمال ومفاهيمه، إلى الدرجة التي جعل الكثير من النساء، من مختلف الثقافات يحاولن التشبّه بها، بإجراء العديد من عمليّات التجميل، واختيار ملابس قريبة لملابس الدمية، واستئثار اللون الوردي على كلِّ شيء في حياة النساء الخاصة والعامة.
وتضيف أونكو أنَّ “باربي” تؤكّد؛ في مظهرها ونمط حياتها والرسائل التي تبثّها، أنَّ النساء يمتلكن خيارات في الحياة. ونجد في ثقافة هذه الدُمية أنَّ النساء سيظهرن دائماً بمظهرٍ حسنٍ وجذّابٍ يستهوي ذوق الرجال. وقد تعرّض هذا الجانب تحديداً في الدُمية إلى انتقادٍ شديدٍ وأثار الكثير من الجدلِ. باربي مخلوقةٌ كاملةٌ في الظروف جميعها، وتعيش حياتها بعيدةً عن الواقع الاجتماعي، فهي، مثلاً، تستقل سيارتها الرياضية بدلاً من سيارات النقل العامة، وهي ليست مُصنِّعةً أو مُنتجةً، بل مُستهلكة.
وترى الباحثة أنَّ شخصيات باربي الجديدة هي بمرتبة استجابة للنقد النسوي من جهةٍ وانعكاس للتغيّر في المواقف العامة ودور المرأة في المجتمع. ولكن، هل تؤلّف هذه الستراتيجية الجديدة ستراتيجية تسويق غايتها تصحيح صورة باربي، التي تعرّضت للكثير من الانتقاد بوصفها أحد مكوّنات الثقافة الشعبية؟ أو هل صُمّمِت بناءً على وعي بالمسؤولية الاجتماعية التي تؤكّد على حقوق النساء في المجتمع؟
من جهتها، ذكرت أستاذة علم الاجتماع ماري روجرز التي قدّمت العديد من الدراسات والأبحاث لفهم الدور الذي تؤدّيه باربي في المجتمع الحديث، في كتابها “ثقافة باربي”، أنَّ لهذه الدُمية عدّة تَمثّلات مُختلفة لأنَّها ليست دُميةً فحسب، بل هي، بحسب الوصف الذي اختارته روجرز، أيقونةٌ ثقافيةٌ شعبيةٌ. هذه الدُمية، التي لطالما كانت موضوعاً لسجالات لا تنتهي، تقترن بتمثيل ما هو زائف، وبصورة الجسد الأنثوي المشوّه وبالمغالاة في التوكيد على الجنسانية في الثقافة الأميركية.
هذا التحوّل في الدمية، جعل الشركة المنتجة تعدّ حملةً لإطلاق النموذج الجديد من الدُمية في العام 1981 ونجحت في لفت الانتباه إليها. إذ كانت صورة باربي الجديدة تعكس صورة امرأةٍ قويةٍ ترغبُ في تحقيق أهدافها في مجال العمل وتُدرك قدرتها على ذلك. وتمكّنت الشركةُ، بفضل مبادرتها الجديدة من تجاوز مفهوم النموذج السائد وقدّمت شخصيات باربي جديدة مثل الجراحة وطبيبة الأسنان والرياضية والمُدرّسة والمقاتلة وسائقة العجلات.
وبهذا تحوّلت باربي، من مجرّد لعبة إلى رمز للمرأة القوية التي لا تحتاج الرجل في شيء، بل تحوّل الرجل في بعض النماذج إلى تابع لها، دلالة على سيطرة نموذج المرأة الجميلة، والقوية، والعاملة، على الحياة بشكل عام.
باربي والنسوية
على الرغم من هذا النجاح لفيلم (باربي) غير أنَّ ردود الفعل حوله فاقت أيّة توقّعات، ففي أحد مقالات الصحفية نايلا بيرتن تقول : إنّه في الأيام التي سبقت إطلاق فيلم “باربي” تعرّض العمل لهجمات مختلفة من قبل شخصيات يمينية تكمن مشكلتها مع الفيلم في أجندته التي تصفها بـ”ووك” [الوعي بالمساواة الاجتماعية والجندرية والجنسية...] و”النسوية”. في وقت تتعرّض فيه النساء لهجمات غير مسبوقة على يد المحافظين، ليس من المستغرب أنَّهم سيستهدفون أيضاً الأشياء التي تجلب لنا السعادة، مثل هذا الفيلم.
وتضيف: من بين أكثر المنتقدين صراحة للعمل حتَّى الآن هي جينجر غيتز، زوجة مات غيتز العضو الجمهوري في الكونغرس الأميركي عن ولاية فلوريدا الذي يناهض الحق في الإجهاض و[حقوق] المتحوّلين جنسيّاً. بعد حضور العرض الافتتاحي لـ”باربي” وقضاء وقت ممتع على ما يبدو، توجّهت إلى “تويتر” لشنِّ حملة ضدَّ الفيلم بينما أشادت بأداء الممثلة مارغوت روبي.
وإذا كانت الحملة في أميركا من قبل بعض اليمين، ولم تتجاوز منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، غير أنَّ الأمر مختلف في الدول العربية، فقد رفع وزير الثقافة اللبناني؛ محمد وسام المرتضى، كتاباً إلى الأمن العام اللبناني ووزير الداخلية والبلديات، وذلك “لاتخاذ الإجراءات اللّازمة لمنع عرض الفيلم في صالات السينما في لبنان”، ووفق صحيفة “الجمهورية” اللبنانية، فإنّ مرتضى أصدر قراراً في ما يتعلّق بموضوع الفيلم جاء فيه أنّه “الفيلم يتعارض مع القيم الأخلاقية والإيمانية ومع المبادئ الراسخة في لبنان، إذ يروّج للشذوذ والتحوّل الجنسي ويسوّق فكرة بشعة مؤدّاها رفض وصاية الأب وتوهين دور الأم وتسخيفه والتشكيك بضرورة الزواج وبناء الأسرة، وتصويرهما عائقاً أمام التطوّر الذاتي للفرد لاسيّما للمرأة”.
الأمر نفسه حدث في الكويت، حسب ما نقلت الصحفية أمل الرنتيسي، فقد نقلت وكالة الأنباء الكويتية عن وكيل وزارة الإعلام لشؤون الصحافة والنشر والمطبوعات رئيس لجنة رقابة الأفلام السينمائية، لافي السبيعي، عن منع فيلم “باربي” والفيلم الأسترالي “تكلّم إليّ”(Talk to me)  من العرض. ووفق السبيعي، فإنَّ اللجنة حرصت على “منع كلّ ما يخدش الآداب العامة أو يحرّض على مخالفة النظام العام والعادات والتقاليد ويدعو إلى أفكار دخيلة على المجتمع”.
وبعيداً عمّا حدث في لبنان والكويت والجزائر وغيرها من الدول العربية، فإنَّ هذا الفيلم أثار إشكالات عدّة تتعلّق كلّها في النسوية والحقوق الجنسية، غير أنَّ الغريب في الأمر أنَّ أغلب الذي انتقدوا الفيلم أو   طالبوا بإيقاف عرضه، كان تفكيرهم منصبّاً على الحرية الجنسية، أو محاولة المرأة للسيطرة على الرجل في العمل والحياة، وهذا لم يكن جديداً على المنادين بعدم المساواة بأشكالها كلّها.
مسز أميركا
وقبل أن تثور هذه الحملة ضدَّ فيلم باربي، فقد انتشرت حملة قبله بثلاث سنوات بعد عرض مسلسل “Mrs. America” في العام 2020، إذ يحكي المسلسل قصّة حقيقية دارت في سبعينات القرن الماضي حين اقترح ناشطون التعديل الدستوري القائل بالمساواة التامة بين الجنسين في الحقوق والواجبات القانونية، ومنع التمييز الجنسي في أيِّ حق أو واجب في البلاد في إطار حركات تحرير المرأة وتقدّمها.
بدا التعديل ذو العنوان الجذّاب “المساواة” بريئاً وبسيطاً لعامة الشعب، ممَّا جعلهم يدعمونه أوّل الأمر، لكنَّ عمل التيار المعارض للتعديل بقيادة فيليس شلافلي (التي تبنّاها اليمين المحافظ، أي: الحزب الجمهوري) كان محوريّاً في توضيح مآلات المساواة المجحفة ومناقضتها لقيم الأسرة والدين في المجتمع، ما أدّى إلى رفض جزء كبير من الشعب للتعديل ومطالبة النواب بمنعه ومن ثمَّ إلغائه تماماً العام 1982. ولكون التعديل بفكرته وغايته يوافق هوى النسوية فقد حملت شعاره ودعت إليه النسويات آنذاك، وتبنّاه اليسار الليبرالي (أي الحزب الديمقراطي)، ورأوا فيه غاية التحرّر والحضارة التي تلغي الفوارق بين الرجال والنساء، ومن أهم قادة التيار المشهورين في ذاك الوقت: بيتي فريدان وغلوريا ستاينم وبيلا أبزاغ.
أمّا فيليس شلافلي (الشخصية الرئيسة في المسلسل) قادت حركة معارضة تعديل المساواة لأنَّها- على حدِّ تعبيرها- أرادت تنبيه النساء إلى حقيقة الفكر النسوي ومآلات شعاراته الرنانة، فكانت شلافلي ناشطة رائدة في توضيح حقيقة مطالب النسويات اللواتي يردن مساواة المرأة بالرجل مقابل استغنائها عن ميزاتها المكفولة قانونياً كحقّها في النفقة الكافية من زوجها، وامتناع التجنيد الإجباري عنها حال الحرب، وحقّها في التأمين الاجتماعي من زوجها وغير ذلك الكثير ممّا خفي على عامة النساء.
وفي تقديمها لكتاب (الجسد ديناً) الذي أعدّته وترجمته الدكتور هناء خليف غني، تشير غني إلى أنَّ في مقدّمة (دليل روتلج لدراسات الجسد) بيّنَ عالم الاجتماع الاسترالي برايان س. تيرنر أنّ الاهتمام بالجسد البشريّ يُمثّل، في جوهره، استجابةً فكريةً متوقّعةً للتغيّرات الهائلةِ في العلاقة بين الأجسام والتكنولوجيا والمجتمع، فلقد أدّت التطوّرات المتسارعة في الطبّ، وعلم الوراثة، ولاسيَّما تقنيّات الإنجاب والاستنساخ الجديدة، وأبحاث الخلايا الجذعية، وزراعة الأعضاء، إلى وضعِ الجسم البشريّ في موضعٍ اجتماعي وثقافي إشكالي. وبالمثل، تمخّض اتساع السوق العالمي لبيع الأعضاء عن العديد من القضايا والإشكاليات القانونية والأخلاقية بشأن ملكية الأجسام البشرية وقيمتها الاقتصادية. ويصدق الأمر ذاته على موضوعات الشيخوخة والمرض والموت التي لم تعد، من وجهة نظر الكثير من العاملين في المجال الطبّي، حقائق ثابتة وضرورية عن الوضع البشري، بل تحوّلت إلى خصائص عارضةٍ وطيّعة للوجود البشري. وجنباً إلى جنب هذه التطوّرات المؤثّرة تمتدُّ سلسلةٌ من الإجراءات المتصلة بالجراحات التجميلية، والترقيعية التي أصبحت حالياً من التقنيّات الشائعة والمألوفة للتحكّم بالمظهر الشخصي، وشيخوخة بعض المجتمعات البشرية، وخطر الجوائح التي تجتاح العالم وتسليع الجسد، وأخيراً المسابقات الرياضية العالمية التي تُقدّم الجسد بوصفه واسطةً للتنافس الثقافي والعسكري والاقتصادي.
هذه التحوّلات في مفهوم الجمال والجسد والعلاقة بين الرجل والمرأة، أصبحت إشكاليات كبيرة تواجه الفكر العالمي عموماً، لاسيّما في ما يخص الدراسات الثقافية التي دخلت بشكل كبير في دراسة هذه التحوّلات. غير أنَّنا حتَّى هذه الساعة لا نفرّق بشكل واضح بين مفاهيم الجندر والنسوية والجسد بمكنونه الثقافي وغيرها الكثير. لذا نتمنّى أن تكون هذه المفاهيم أكثر وضوحاً مستقبلاً، لاسيّما أنَّنا نواجه- حسب بعض المراقبين- حروباً على مستوى المجتمع وأخلاقياته التي نسعى للحفاظ عليها.