الأنواع البيئية ، التقاليد والتحولات والتجديد

ثقافة 2024/04/17
...

إيفي زيمانيك

ترجمة:  د. رضا الأبيض

على امتداد فترةٍ من الزّمن طويلةٍ جداً، كانت الدراساتُ الأدبية التي تتناول البيئة تكتفي بنوعين: أوّلاً، النصوص الديستوبية dystopiques  التي تصور الكوارثَ البيئية، وثانياً، اليوتوبيات utopies التي تنشئ صورةً مثالية مضادة. وعليه، يمكننا أنْ نفهم كيف أنَّ المقدمة إلى النقد البيئي التي نشرها جريج جارارد  Greg Garrard - وهي مقاربةٌ معروفة أكثر في العالم الناطق باللّغةِ الإنجليزية - ترتكز على قطبيْ "الرعوية" pastoral  و"نهاية العالم" apocalypse.
ومع ذلك، تماشياً مع المنظور الأنجلو- أمريكي، يفكر جارارد في الأنواع الأدبيّة واضحة المعالم أقلّ من تفكيره في أساليبِ الكتابة العابرة للأنواع، والمرتبطة بموضوعاتٍ أو دواع محدّدة أو ستراتيجيات بلاغية متعارضة.
إنّ لهذين النّمطيْن عيوباً أيضاً من وجهة نظر جمالية. إذ يمكن اتهامُ أنماط الكتابة التي توصف بأنها "رعوية" في النقد البيئي الأنجلو- أمريكي، والتي غالباً ما تكون أمثلةً على كتابة الطبيعة nature writing ، بأنها تنكر الواقع . وينبغي، كما يشير البعضُ، استبدالُ المُثل الرعوية بمفاهيمَ جديدةٍ، مثل مفهوم "ما بعد الرعوية" post-pastoral ، والتي، وفقاً لجيفورد Gifford ، تنبثقُ من التّقليد الرّعوي، ولكنها تتعالى عليه من خلال  النظر النقديِّ إلى تلك الرؤية المثاليّة للطبيعة.
كذلك الشأنُ بالنسبة إلى صيغة نهاية العالم apocalyptique التي تتوافق مع نبوءة الكارثة الكبرى والتي يقول عنها لورانس بويل Lawrence Buell: "إنها الاستعارة الرئيسية الأقوى المتاحةَ للخيال البيئيِّ المعاصر".
إنَّ  هذه التنبؤاتِ المثيرةَ للقلق وإنْ كانت تزيد من وعي القرّاءِ بالقضايا البيئية، فإنها لا تفعل الكثير لتعزيز العملِ الوقائي، لأنها تُميّز ، بطريقةٍ مفرطة في التبسيط، بين الأطراف الفاعلة، "الأبرياء" وأولئك "المذنبين"، ولا تقدّمُ سوى القليل من المعلوماتِ حول العلاقات السببيّة المعقّدةِ للظاهرة. رغم ذلك، فإنَّ اهتمامها هو التصدّي لعملية التعوّد، التي تثير مشكلاً، على الفكرةِ المُجمع عليها حول الأزمة البيئية.
إنّ مِثْلَ هذه الرؤية، التي تركّز على التأثير فقط، لا تأخذ بعين الاعتبار ، وبشكل كافٍ، الجوانبَ الجماليّة في الأعمال الأدبية، وتُهمل العديد من أنماط الكتابة الأخرى التي لا يمكن تصنيفُها وفق تصوّر ثنائي.
إنّ الأنواع الكلاسيكية، التي كرّس لها النقدُ البيئي الأنجلو- أمريكي نفسَه منذ بداياته، هي شعر الطبيعة الرومانسي، كتابة الطبيعة nature writing  ، والوستارن western . ثم، تحوّل، بعد ذلك، البحثُ إلى الخيال العلميِّ.
ومثلنا تماماً، تنتقد أستريد براك Astrid Bracke  هذا المجالَ المحدود في دليل أكسفورد للنقد البيئي Oxford Handbook of Ecocriticism.
من المؤكد أنَّ التركيز السابق على هذه الأنواع قد مكّن النقدَ البيئي من اكتساب ملمح يمكن التعرّف عليه بسهولةٍ، لكنَّ هذا التأطيرَ لا يُنصف قدرات التحليل البيئي، ويحتاج إلى توسيعه بسرعةٍ. ولذلك تمّ تضخيمُ طيفُ الأنواع الأدبية في مقدّمتيْن للنقد البيئي نُشرتا مؤخراً باللغة الألمانية.
يقترح العمل الذي نشره دوربيك Durbeck  وستوبي Stobbe  أنْ نأخذ بعين الاعتبار أيضاً الأنواع التاريخية التي تجمع بعضاً من التجديدات في تاريخ الأدبِ الناطق بالألمانية، مثل  الأنشودة الرعوية Idyll ، ويوتوبيا الحالة الطبيعية Naturstaatutopie، والأنواعِ الفرعيّة الجديدة، مثل رواية تغيّر المناخ Klimawandelroman، والتشويق البيئي l’ecothriller، والدراما البيئية، وكذلك أدب الشّباب. ويناقشُ براك بشكل مقنع لتوسيع المجال ليشمل النصوصَ التي لا تتمحور بشكل محدّد حول موضوع الطبيعة والتي لا تسعى صراحة إلى حشْد القارئ لقضية ما.
وهذا يجعل من الممكن أنْ نأخذ في الاعتبار النصوصَ ذات الموضوعات والاهتمامات المختلفة جداً، والتي تتعلق بقضايا علمية أو سياسية أو جمالية معينة أو النصوص التي تسعى إلى إثارة الانبهار أو القلق أو الفضول أو الخوف.
ومن أجل استبدال الصنف بناءً على نيّة المؤلِّف، يقترح مجلد Okologische Genres  الاشتغال بمفهوم "معرفة الأنواع [الحيّة]"، وهي معرفة إيكولوجية محدّدة، مهتمة بالارتباطات بين الأنواع المختلفة بمجالات وأنواع مختلفة من المعرفة، والتي تطوّرت عبر التاريخ.
إنّ بعض الأمثلة حتى تلك الرعوية bucolique القديمة، مثل Eglogues de Virgile، تقدّم لنا، إذا قرأناها في تأنٍّ وبعناية، معلوماتٍ عن الحياة الرعوية وعن التحوّلات التي طرأتْ على المناظر الطبيعية من خلال الفرجات المشرِقة. فالقصيدة التعليمية التي تعود إلى القرن الثامن عشر، مثل قصيدة "Die Alpen" لألبريخت فان هالر Albrecht van Haller ، تقدّم لنا معلوماتٍ عن الأحوالِ الجوية في ذلك الوقت وعن الظروفِ المعيشيّة وطرقِ عمل المزارعين وسكّان الجبل السويسريين. إضافة إلى ذلك، تقدّم قصيدة جوته Goethe  الشهيرة "Metamorphose der Pflanzen" ("تحول النباتات") معرفةً بعلم الأحياء وقوانين الطبيعة التي تنطبق على النباتات وكذلك البشر حيث يجمع فيها غوته بين الفلسفة الطبيعيّة والشّعر، في حين أنَّ غالبية الشعر في عصره يتعلق بشكل أساسي بالتجارب الذاتية في علاقة بالطبيعة.
لذلك، نحن مهتمّون بالأسئلة التالية: ما هو النوع [الأدبي] الذي يتوافق مع ضرب محدد من المعرفة البيئية - و ما هي الصفات الخاصة بهذا النوع؟ ما هي الأفكار الأخلاقية والستراتيجيات الجماليّة التي تتجلى في الأنواع المعنيَّة؟ وكيف تحدد الأنواعُ الخطابات البيئية؟
يتطلب أخذ الأنواع المختلفة في الاعتبار اعتمادَ مقاربة نظريةٍ لنظام الأنواع الأدبية. ولكن حتى اليوم، في النقد البيئي في العالم، لا نجد إلاّ القليل من الاعتبارات النظرية حول النّوع تتجاوز المساهمات في نظرية الأنواع الأساسيّة المعروفة أو الأعمال الفردية.
ثمّة نقصٌ في التحليلات التاريخية الزمنية والمقارِنة حول كامل الطيف الممكن، في حين أنّ الإيكولوجيا الأدبية تفترض أنّ الأنواع الأدبية قد تطورت بناءً على الاحتياجات المحددة للمؤلفين والقراء وتستمر في التطور. يطور كلُّ نوع ديناميكياته الإيتيقية والجمالية الخاصة به، مما يؤدي إلى تكوين أنواع (فرعية) جديدة. فتطوّر الأنواع الأدبية ليس مساراً أدبياً داخلياً ولا هو ردّ فعل بسيط على الاحتياجات والظروف الاجتماعية، لأنّ نظام الأنواع الأدبية يستجيب أيضاً للتحولات البيئية، والتي تؤدي بدورها إلى تغييرات ثقافية.  
ولذلك، فإنّ تكيّفَ الأنواع يبيّن كيف يتأثر الأدبُ، مثل أيِّ شكل آخر من أشكال الثقافة، بالبيئة. إنّ الأنواع الأدبيّة التي تتميز بتطورها التاريخي الخالص (مثل روبنسونادla robinsonnade ( )، وقصة الرحلة ، أو شعر الطبيعة  تتفاعل مع التحدّياتِ الجديدة باستخدام ستراتيجيات مختلفة. وفي الوقت نفسِه، نكتشف ونحدّد أنواعاً فرعية جديدة مثل "سرد المخاطر" Risikonarrativ ((  وروايات التشويق البيئية l’ecothriller أو الشعر البيئي ecopoetry أو شعْر العناصر la poésie élémentale.
ومن ناحية أخرى، نلاحظ أنَّ ملامح الأنواع التقليدية تتلاشى في مواجهة الأزمة البيئية الحالية عندما يتم الجمعُ بين تقاليد وأنماط الكتابة المختلفة، ثم تظهر أنواعٌ هجينة جديدة.
لكنّ الأزمة البيئية الحالية ليست وحدها هي التي تؤدي إلى التجديد: فقبل ذلك بكثير، كان بإمكاننا أنْ نلاحظ بالفعل زيادةً مستمرة في المعرفة البيئية، مما أدى إلى استبدال بعضِ المفاهيم التي عفا عليها الزمنُ عن الطبيعة والتجديدات الجمالية والأخلاقية، كما يتضح من خلال تحوّل الحكايات الخرافية  أو تطور الأنشودة الرعوية Idylle (في نهاية القرن الثامن عشر).
ومثلما هو الشأن بالنسبة إلى الأنشودة الرعوية، هناك، من ناحية، أنواعٌ لا توجد إلاّ في ثقافة معينة (وهو ما يقال أيضًا عن كتابة الطبيعية الأنجلو- أمريكية أو قصص الشّهادة  testimonio   في أمريكا اللاتينية   ومن ناحية أخرى، فإنَّ أنواعاً، مثل الروبنسوناد la robinsonnade   أو الخيال العلمي، موجودةٌ في كل مكان في تاريخ الأدب الغربيِّ، على الرغم من وجود متغيّراتٍ تتوافق مع مفاهيمَ مختلفةٍ عن الطبيعة ومختلف تقاليد الأنواع الأدبيّة.