عبد الغفار العطوي
سأتحدث هنا عن تمرين (التطبيق) في التحليل النفسي باعتباره نظاماً عاماً، في مدى قناعتنا في الربط بين نظرية الجنس التي نظر لها فرويد، وما فتئ العالم الإنساني متمسكاً بتقليدها، وبين علم التحليل النفسي، فبينما هي أصبحت من الماضي، ووجد الطب النفسي مباحث في تفسير ما تمسكت به نظرية فرويد الجنسية، على الأقل في تفسير الميول اللاواعية بين الطفل واليافع وبين أمه، حيث أن المبحث الأول جاء في دراسة الانحرافات الجنسية، وما قام من أفكار غريبة ومثيرة حول تلك الانحرافات، وما شكلته تلك الدراسات من صدمة في الغرائز الجنسية والمناطق الشهوية باختلاف ظاهري بين الجنسين عند عامة الناس، وبقدر أقل بين الأوساط العلمية والطبية، وفي المبحث الثاني بما يتعلق بالجنسية الطفلية ورهانات الكتابات الأسطورية في تفسيرها لصالح تأويل فرويد ومدرسته، التي أصر عليها حتى في الإضافات المتكررة التي قام بها في العقود التي سبقت وفاته كالنرجسية، وفي المبحث الثالث في تحولات البلوغ، ووضع مفاهيم مربكة وصادمة تصف الظواهر الفعالة في نظرية الجنس، كنظرية الليبيدو ، ومشكلة التهيج الجنسي، وتفاوت الجنسين في تمايزهما الجنسي، سنتطرق إلى الفكرة التي طالما ناقشناها في الجامعة، في كورس (علم النفس العام) وعلم نفس الطفل والمراهقة ، عما كان يدور في خلد فرويد ومدى تأثير الشعور الديني في بيان قلقه الحضاري المشوب بيهوديته التي لم يتخلص منها بتاتا، و كنا نستغرب الأثر الصارخ للميثولوجيا الإغريقية في قيام نظريته في الجنس.
سيغموند فرويد ( 1856 - 1939) أشهر طبيب في العالم المعاصر، لارتباطه بعلم التحليل النفسي، من كونه مؤسساً له، ولمدرسة التحليل النفسي، وعلم النفس الحديث ، وإضافة لذلك يعتبر مفكراً حراً، وصفه جان بيلمان نويل في كتابه ( التحليل النفسي والأدب – الترجمة العربية ص334): أما فرويد بنظارته التي لا تفارقه، فإنه ينظر إلى الناس وهم يعملون ويدرسهم خارج العمل، إن نظارته لا تفارقه حتى عندما يكون ذهنه في استراحة – ولعل هذه الميزة النادرة هي التي جعلته يدقق في قراءته لأي كتاب في السطور، لا بين السطور، أي في اللغة أولاً؛ في الكلمات والجمل والنص، لهذا تبرز حذاقته من كونه طبيباً للأعصاب، يقرأ ما بين يديه، ولا غرابة في أن يبقى اسمه خالداً في سجل عباقرة العالم في التحليل النفسي، وفي الفكر رغم النقد اللاذع لبعض منجزاته، خاصة في ما يتعلق بأشهرها (نظرية الجنس) وغرابة مرجعياته التي اعتمدها في دعمها، إذ استمدها من الأساطير الميثولوجية (أوديب)، فأخرج تلك الأساطير من حيز الفكر الميثولوجي نحو فرضيات الثقافة القادرة على الاستدلال، فهو اليوم، يحتفي بكل ذلك المجد العلمي بعد مرور أكثر من قرن على (فضيحته)، أقصد كتابه الذي صدر عام 1905 في طبعته الأولى ( ثلاثة مباحث في نظرية الجنس)، واعتبر آنذاك صفعة في وجه العالم المعاصر، هو الآن يحتفي معنا في تطبيق حول كيف نفهم نظرية الجنس الفرويدية بعد كل هذه المستجدات العلمية والطبية النفسية والثقافية التي أولت (الجنس) عناية فائقة، ونحن نقرأ نظريته في المباحث الثلاثة (ترجمة جورج طرابيشي ط2 1983)، ومن دون شك فإن فرويد بعد كل هذا التاريخ في الطب النفسي الذي تبعه بعد رحيله، وقام من قام، إما بتأييد نظرياته النفسية عامة، وفي نظرية الجنس خاصة، أو من طعن أو جرح أو عدل في تلك المنجزات المذهلة الجريئة في عالم الطب والطب النفسي (لا سيما العالم النفسي الفرنسي جاك لاكان)، يظل فرويد اليوم جذلاً نشوان، بعد أن أوصل الطب النفسي ( وهو علم صعب وغامض ولا يحظى بجمهور شعبي كبير)، نحو أن يصبح متداولاً بين بسطاء وعامة الناس في سائر شعوب العالم، وأن تستخدم مصطلحات فرويد (وتتعرض لسوء الفهم والتحريف طبعاً) في الحياة اليومية للأفراد، كلما تهامسوا عن ذاك اللغز الذي جعل ( أوديب) يفتن بأمه في أسطورته (أوديب ملكا)، لدرجة أن يقتل أباه، ويسمل عينيه بمشبك شعر رأس أمه بعد ذلك شعوراً بالندم والخزي والعار لما حدث. هذه هي فضيحة الإنسان في عدم قدرته على تفسير الميل الجنسي الشديد لمحارمه (زنا المحارم) التي فسرها فرويد كعادته من خلال أسطرتها. ولعل كتاب فرويد ( قلق في الحضارة)، من كتبه قبل رحيله، يعكس مفهوم القلق الفرويدي إزاء فكرته التي أبلغها إلى رومان رولان عن الشعور الأوقيانوسي الذي رد إليه نشأة الإيمان الديني، قد أقضت مضجعه وحركت فيه رغبة لا تقاوم في تفسير ذلك الشعور عينه، فقد يكون، ربما، نص (قلق في الحضارة) هو الجواب الغامض على فكرة ربط فرويد بين الطفل وأمه في تلك العلاقة المحرمة، التي أماطت الأساطير الإغريقية اللثام عنها من دون خجل، ويكذبها الناس، ويلعنها رجال الدين، ويصمت العلم حتى الآن أمام واقعياتها المذهلة، ومن الطريف أن استنتاجات فرويد حول مفهوم الزنا، و (زنا المحارم) كانت مقنعة كثيراً رغم أسطرتها، في زعيم القبيلة الذي يملك حق ممارسة الجنس مع النساء (نساء القبيلة) ولم تفك عقدة زنا المحارم إلا في ما قام به أبناء الزعيم من قتل الأب. إن عبقرية فرويد في تصوير فاعلية نظرية الجنس القائمة بين الطفل والأم، هي في عكسها على الأساطير، وتلك الأساطير تمثل (الهاي وي) للجوء الإنسان البدائي حتى المتعقلن إلى جوهرها التخيلي، لأن أهم قوانين الله التي وهبها لعباده هو جموح الخيال. فرويد وضع علاقة الأب- الأم في رهان المسوغات التي لا يفقهها الطفل (عقد الزواج)، وهما يسبحان في علاقة الجنس، ووضعها مؤسطرة أمام وعي الطفل غير المدرك تماماً لما يفعله أبواه خلسة، وسط ظلمة وفحيح وتأوهات. أراد فرويد أن يبعث السكينة في قلب الطفل، فابتكر التحليل النفسي. يقول جان بيلمان: لا ينبغي لمصطلح التطبيق أن يؤدي إلى تفسير معكوس، لهذا فإن دراسة تلك المباحث الثلاثة دفعة واحدة الآن ، على أنها ما زالت نظرية مقبولة بين الأوساط العلمية للطب النفسي، هي إجحاف بحق الطب النفسي العالمي الذي ابتعد كثيرا عن رؤية فرويد، فقد أصبحت نظرياته الجنسية كلاسيكية، التي كان يعدل بها طوال حياته حتى الخمسينيات من القرن الماضي، وما بقي من مباحثه في نظرية الجنس .