ما الأنثروبولوجيا الأدبيَّة؟

ثقافة 2024/04/17
...

د. يحيى حسين زامل

ما الأنثروبولوجيا الأدبية؟ سؤال طرحه الأنثروبولوجي الأميركي (بول ستولر)، ليفتح أفق الجواب، عن العلم الذي يدرس العلاقة بين الأدب والثقافة، وعن الهوية والخيال والمادة الإثنوجرافية، التي هي النصوص والمدونات والسرديات الثقافية. ورجوعا للبداية، لقد تفرعت اﻷنثروبولوجيا إلى عدّة أقسام رئيسة، بحسب المدارس الأنثروبولوجية (البريطانية، الأميركية، الفرنسية).

 ولعل من الإنصاف أن نذكر أن “اﻷنثروبولوجيا الأدبية” كانت الاهتمام الأبرز الذي ركزت عليه كل من المدرستين الأميركية والفرنسية، بعد انبثاق اﻷنثروبولوجيا الثقافية واللغوية (الكلام، اللهجة، الرطانة، اللكنة)، إذ يُدرج اﻷدب من ضمن الأنشطة الثقافية واللغوية والرمزية للثقافات والشعوب، ولا يخلو اﻷدب من جنبة اجتماعية، ولكن جل التركيز كان من المدرستين الأخيرتين على تطور أنشطة اﻷنثروبولوجيا وتوسعها وتساوقها مع تعقد المجتمعات الحديثة وتركيبها.
وكان أبرز المشتغلين: فرانز بواس، كما في كتابه الفن البدائي، وكلود ليفي ستروس في مؤلفه مداريات حزينة، وبيير بورديو  في كتابه قواعد الفن، وبول ستولر، صاحب السؤال..وغيرهم.
ولعل السؤال المركزي في “اﻷنثروبولوجيا الأدبية” هو عن  أصل اﻷدب وجذوره وجوهره، فضلا عن علاقته بالثقافة والمجتمع، وأهدافه ودوره في تبيان ما يريد الإنسان من خلال الأدب، سواء كان قصة أو رواية أو شعرا، وعما وراء هذه النصوص من أهداف وغايات ورموز ودلالات في الممارسات والأنشطة الثقافية والاجتماعية اليومية، فإن اليومي المعاش، هو الاهتمام الأبرز في اشتغالات اﻷنثروبولوجيا اليوم، من خلال طريقة المعايشة والملاحظة المباشرة، والملاحظة المشاركة مع أبناء المجتمع.
يذكر الباحث قصي الحسين في كتابه (أنثروبولوجية اﻷدب، دراسة الآثار الأدبية على ضوء علم اﻹنسان)، أنه لطالما تساءل الباحثون عن أصل اﻷدب أو الفن، وكيف ظهرت هذه اﻵداب والفنون، وكيف استطاع الوعي اﻹنساني أن يبتكر الصورة اﻷدبية والفنية ويشّكلها بوصفها لب العمل اﻷدبي والفني، ويذكر أمثلة لمفكرين عدة أمثال “كارل بوهلر” وهو يذكر أن حركات العمل الطبيعية المنتظمة، التي تنتظم فيها الجماعة، كانت تبعث من تلقاء نفسها على التغني بأغانٍ موزونة مصاحبة للعمل وميسرة له تيسيرًا نفسيًا.
وفي سيرة القديس “نيلوس” أن بدو شبه جزيرة سيناء، كانوا يغنون في الرابعة المسيحية أغنية وهم يستقون من البئر، ويذهب “بروكلمان”، أن قصد الشعر وفن القول في الأصل عند البدائيين ليس مجرد المسامرة، ولكن لتشجيع العمل ببريق سحري، واتفق معه “جولدزيهر” بأن الشاعر كان يستعمل الشعر سحرًا، يقصد به تعطيل قوى الخصم، حتى أنه كان يلبس زيًا خاصًا يشبه زي الكاهن، مما دعا إلى تسميته بالشاعر، ﻷنه يشعر بقوة شعره السحرية.
أما قصيدته فكانت البناء المادي والفني لهذا الشكل من السحر. وعلى وفق ذلك يكون الأدب والشعر لصيقين بحاجة الفرد الاجتماعية والثقافية والاتصالية. ويعد المنهج “البنيوي التكويني” من أبرز المناهج في الدراسات الأدبية الاجتماعية، ورائده الحديث “لوسيان غودمان”، أثناء اشتغاله بمركز سوسيولوجيا اﻷدب بمعهد علم الاجتماع في الجامعة الحرة ببروكسيل مع فريق من الباحثين. وتنظر “البنيوية التكوينية “ إلى النص ككل يتميز بوحدة تماسكه الداخلي، وإلى مكونات بنيته لا على أنها منفصلة قائمة بذاتها، بل مرتبطة بمجمل البنية والدلالة والسياق العام، وترتبط بجماعة اجتماعية يمثلها المبدع في لحظة تاريخية محددة .
وتبرهن القصص بحسب (رالف بيلز وهاري هويجر) في كتابهما (مقدمة في الأنثروبولوجيا العامة)، على أنها تستمد أصولها من الوضع الاجتماعي والثقافي الذي تنشأ فيه، أكثر مما تفعل الأشكال الفنية الأخرى، كما أنها تقدم بوضوح قضايا تفسيرية عن الكون وأصله والمُثل العليا الاجتماعية، وتكون ذات هدف تعليمي محدد، وهي بنفس الوقت تُرفه عن النفس، فالرواية تُسرد لأن الراوي ومستمعيه يستمتعون بأحداثها. وسواء ارتبط الأدب بالعمل أو السحر أو الاستمتاع أو بالتعبير عن بعض القضايا الإنسانية، فإنه أمام مهمة التوظيف الواقعي والفعلي في الحياة اليومية التي أخذ الأدب يمد خيوطه فيها، من خلال الأعمال والأفكار والممارسات الأدبية والفنية التي تحمل رموزا اجتماعية وثقافية ورمزية وعلاماتية، وتنتشر في عالم أصبح يهتم بالرواية أكثر من أي جنس أدبي آخر، لأنها من خلال طريقة كتابتها وأسلوبها تستطيع إيصال الأفكار بسهولة أكثر من غيرها، وهذه مهمة أخری تقع علی عاتق الأدب أيضًا.