تساؤلات عن الفساد الثقافيّ

ثقافة 2024/04/17
...

 صلاح حسن السيلاوي

الفساد الثقافي يستشري بجوانب معينة من حياتنا، ربما يوجد في إدارة العمل الإبداعي، أو على مستوى تطبيق بعض المثقفين للمفاهيم الدينية أو الإبداعية أو النقدية، من هذا المنطلق يحتاج مشهدنا إلى تصحيح مساراته؟ بعض المثقفين أفسدوا حين صاروا طائفيين أو قوميين أو سياسيين، على حساب انتماءاتهم الإنسانية الخالصة، بمعنى أنهم وقفوا إلى جانب مصالح فئوية ضيقة وابتعدوا عن  الذات الإنسانية وقيمها العامة.
أليس من الفساد الثقافي أن يساند المبدع دولة على حساب دولته؟ أليست الكتابة التي تغذي أنساق العنف وتعلي من شأنه فسادا؟
ماذا عن الاصطفافات داخل المشهد الثقافي على مستوى الأجناس الأدبية؟ ما رأيك بفساد الصراع الإداري الذي يغيب شكلا شعريا أو أدبيا  لحساب شكل آخر؟
ما رأيك بفساد بعض النخب الإدارية التي تتعامل مع الواقع الثقافي بطريقة إسقاط الفرض وتترك البحث عن الجيد، وتستغني عن صناعة الإبداع، وتركن لما هو سائد؟
 أليس من الفساد أن ينشغل الحراك النقدي بما يراه أو يصله تاركاً البحثَ عما هو جيد  للدرجة التي أصبح فيها ضحيةً للأخوانيات والإعلام؟

مؤشرات الفساد الثقافي
 القاص والروائي عباس خلف علي، يرى أن حالات الفساد الثقافي متنوعة ومتعددة وتظهر بشكل جلي في المجتمعات غير المستقرة أمنيًا واقتصاديًا وسياسيًا.. وخصوصا عندما يتم تكليف غير المتخصص بمناصب ثقافية وهو غير مؤهل فكريا وثقافيا؛ مشيرا إلى أن غير المؤهل هذا يحاول عبر خلق شلليات وتجمعات ويوزعها في كل المؤسسات الثقافية  لكي  تقوم بدورها على التهميش المتعمد للمواهب الإبداعية واعتماد أشباه المثقفين والترويج لهم في صورة خارجة عن الثوابت الحقيقية والأنكى من ذلك تقوم هذه الشلليات على معارك وهمية أو تسقيط فكري  بطريقة طفيلية (فيروسية) بعيدة  عن الموضوعية والحيادية حتى لا يكون لهذا المبدع أو ذاك  دورًا  يستحقه إبداعيًا  لكي  يساهم  في البناء الثقافي والفكري.
وأضاف علي قائلا: كما أن بروز وانتشار أسماء طارئة عبر وسائل الإعلام  والتواصل الاجتماعي وعلى الرغم مما تنشره هذه الكتابات فهي لا تمت بصلة للأدب لا من قريب و لا من بعيد ( ليس فيها دهشة ولا تأثير)  ولكن للأسف يروج لها بطريقة مقصودة أو غير مقصودة عبر السماح لها في  نشاطات المهرجانات والمنتديات والمؤتمرات وهذا بصراحة يفسر أمرًا واحدًا لا غير هو عدم احترام المؤسسة الرسمية للإبداع.
ثم أن عجز المراكز الثقافية عن الفعل الثقافي المحض مما تضطر للتركيز على حملة الالقاب العلمية وأغلبهم ليس له علاقة بالأنشطة الثقافية والإبداعية لتبرر ذلك  أمام الواقع بأنها تستمد شرعيتها من هذه الالقاب حصنًا لحضورها، وهذا هو نوع من التجني والفساد على طبيعة الفعل الابداعي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مرهونًا ومقيدًا لهذه المظاهر المخملية مع احترامنا الشديد لأصحاب الألقاب العلمية.. فالأدب والإبداع شيء واللقب العلمي شيء آخر حتى لو كان صاحب اللقب كاتبا ومفكرا.. لا يعني اللقب العلمي  بالضرورة  ميزة لدى الكاتب.
وقال أيضا: كذلك في المجال الصحفي الثقافي يلاحظ القارئ المتخصص انتشار عناصر غير طبيعية وغير ايجابية في جسم المشهد الثقافي، وهذا يعود بالدرجة الأساس إلى المحرر الثقافي  الذي يستأثر بالعلاقات الخاصة على حساب المادة وجودتها أو أنه يتعمد بالسماح لمرور بعض الأفكار البعيدة عن الثوابت الوطنية وإثارة العصبيات القبلية والنعرات الطائفية وهذا ما يمنح سيولة للطارئين إلى ترويج قيم دخيلة على الواقع الثقافي بحجة واهية وهي - حرية الرأي - بينما الواقع يرى أنها  بعيدة كل البعد عن الحرية البناءة التي تساهم في خلق وعي ناضج في احترام آراء الغير فكريا وثقافيا، ومن المؤشرات الأخرى على الفساد الثقافي وللأسف الشديد هناك من هو محسوب على الثقافة ويتعامل مع المصالح الفئوية أو ما تسمى بركوب الموجة وابتعدوا عن جوهر الابداع فإن هذه النخب وبصراحة متناهية غير مدركة بأن ذلك يعطي انطباعا مشوها للفعل الثقافي بحكم أن الثقافة مجموعة معارف ينظمها السلوك وليس المصالح، فالميول والاتجاهات تفرغ الإنسان الثقافي من مضمونه ومن وجوده القيمي في مجتمعه، ولذا نعد ذلك السلوك خطرا على الثقافة في بعدها الإنساني والأخلاقي، ولابد من محاربة تلك النخب المحسوبة على الثقافة  قبل أن يستفحل أمرها وتصبح ظاهرة مشاعة.

اطمئنان القيادات الثقافية للسائد
الشاعر كريم جخيور، ابتدأ رأيه بعدم اعتقاده بإمكانية أن يكون الطائفي مثقفا، مشيرا إلى أن الطائفية تعني تأسيس الثقافة بالضد من الآخر، وهو أمر مرفوض في التأسيسات الثقافية، على حد وصفه، بل إنها برأيه من أخطر مداخل الفساد الثقافي، وأنها قمة الفسادات ايضا .
وأضاف جخيور موضحا: أما الفسادات التي مضيتَ إلى تعدادها، ومنها: الاصطفاف مع دولة أخرى ضد دولتنا، والكتابة بما يغذي نوازع العنف، وأيضا الاصطفاف تحت جنس أدبي (ضد) جنس اخر، كما هو حاصل الآن بين (اتباع) القصيدة العمودية وقصيدة النثر، وما يجري من استعادة لخطابات التخوين التي برعت التيارات القومجية حينما تواجه اي تجديد ادبي محتمل، فتشتغل آليات القتل الرمزي المستندة إلى التخوين والشعوبية بل والالحاد التي يتهم بها كتّاب قصيدة النثر، ولا نبرّئ الادارات الفاسدة التي توفر الفرض للكتابة بالإشكال التقليدية على حساب اشكال الحداثة الشعرية، بل هنالك تدخلات دولية في تسيير الثقافة العربية والحاقها بثقافة البترول التي توظف الملايين في هذا الاتجاه من أجل اعادة تسيير الادب والثقافة والدين بالشكل الذي يخدم توجهاتها (الثقافسياسية).
إن أخطر ما وصلت إليه الحالة الثقافة، هو اطمئنان القيادات الثقافية إلى السائد، مما يجعلها ضحية للاخوانيات والإعلام وللقوى السياسية المهيمنة.

تعظيم دور الأخوانيات
القاص والروائي إبراهيم سبتي، يرى أن المثقف أو الكاتب لا يختلف عن أي شخص آخر يمتلك المشاعر والأحاسيس والعواطف لأنه بالتالي بشر يفعل ما يفعله غيره.. لافتا إلى أن المشهد الثقافي يشهد بعض الممارسات البعيدة عن الاخلاص والجدية في العمل.
وبيّنَ سبتي أن أكثر هذه الممارسات تتجه نحو إقامة نشاط معين (من قبل بعض الأفراد) فينصب التفكير قبل كل شيء آخر تركيز على بعض الاصدقاء وترسيخ دور المجاملات وتعظيم دور الإخوانيات.. فيذهب النشاط والفعل الثقافي مهما كان عنوانه اللافت إلى دائرة ضيقة خالية من الاتقان والابتكار ويفقد الهدف الذي أقيم لأجله..
ثم أضاف بقوله: برأيي أن هذا النوع من الفساد الذي يمارس بهذه الطريقة المرفوضة، لا يحقق الغاية النبيلة والقصد الثقافي المرجو.
فأولئك الاشخاص الذين يفكرون بهذه الطريقة، هم من يتسببون بالاخفاقات في بعض المفاصل الثقافية لأنهم لا يعرفون سوى التخريب وإن لم يعترفوا بذلك.. ناهيك عن ان البعض منهم  يحاول التسلق والصعود اعتمادا على مجاملاته واخوانياته.. وهو بالتأكيد لا يحترم حرمة الأدب والثقافة النبيلة المتمثلة برسالة واسعة المعاني موجهة للمجتمع تساهم في بث روح المحبة وقيم التسامح.. فلا تفكير في عقولهم سوى توسيع دائرة الهزال والضعف في المفصل الذي يمارسون فيه سلطتهم والأدهى أنهم يتناسلون في كل زمان ومكان وهم بعيدون عن ثقافة الابداع والفكر ومرتكزات البذل والعطاء.. ولا يختلف اثنان في ان المجاملة تمنح الشخص القائم بها بعض اللطافة والمديح وحب الذات لا أكثر.. إضافة إلى التبجح ورفع الاصوات المدوية والحضور الدائم في كل مكان يتطلب منهم الحضور ليظهروا امام الناس بأنهم يقومون بأدوار ثقافية مهمة بينما هم أكثر بعدا عن الابداع ومفاهيم الثقافة والفكر النيّر فيدفعهم حب الذات والظهور الزائف.. اولئك يدخلون في دائرة الفساد أسوة بمن يمارس الفساد المالي والإداري فكلاهما يسيران نحو الخراب والابتعاد عن القيم الاخلاقية وتعزيز ثقافة الرفض والتصدي للآخر الجيد والذي صار للأسف ضحية للأخوانيات، فيتم إبعاده لأنه يتعارض مع مآربهم الخاصة وأساليبهم في التهميش والاقصاء لكل مثقف قد لا يسير بحسب اتجاهاتهم المعروفة.. نحن هنا لا نعمم بل نشخّص الحالة السلبية التي ظلت واضحة تحت الشمس مع أنها معروفة ومكشوفة على الدوام.. أن الترفع عن المجاملات والاخوانيات، كفيل بوضع الثقافة على مسارها الصحيح والأكثر نبلا وسطوعاً والأكثر ابتعادا عن الفساد.

{خرقة مسحٍ}
الشاعر عباس ثائر، يشير بإجابته إلى أن ما يسوق الحياة الأدبية إلى غياهب الفساد هو تخلي الأديب عن أخلاقه بصفته إنسانًا مجردًا، وتخليه عن أخلاقه بصفته أديبًا.
لافتا إلى أن الأديب لا يختلفُ عن غيره من الناس، وكذلك الفساد الثقافي لا يختلفُ عن غيره من أنواع الفساد، مبينا أن الفساد الإداري ليس أقل وطأةً من الفساد المالي ومثله الثقافي، على الرغم من أن للأديب خصوصية تختلف عن خصوصية السياسي، إذ أنه دائمًا يدعو لسمو النفس ونزاهتها وترفعها عما هو سافل، فهو – أحيانًا، على المستويات الفردية والخاصة - يستطيع اصلاح ما أفسده الدهر والعطّار معًا.
وتساءل ثائر قائلا: فمن يُصلح الأديب إذا ما أفسده الدهر؟
ثم أجاب على هذا التساؤل بما يلي: هنا تكمن الخطورة إذ ينظر الناسُ إلى الأدباء مثلما ينظر إنسانٌ إلى آخر، يرى وجهه، مظهره ثم قوله ففعله، هكذا يُنظر إليه وجهَ البلد، ومظهرها ، ثم روحها.
يخسرُ المرءُ نفسَه عندما يصطفي لنفسِه النفعية على حساب نفسه النقية، حين يُعلّق ضميرَه صورةً قبيحة بمسمار صدئ على جدارٍ متآكل، في زاوية ظلماء، تتكاسل العيون عن رؤيتها، وتنفر الأرواحُ لو تأملتها؛ إذ ليس بإمكان المرء أن يتأمل صورةً قبيحة في مكان ضيق أظلم.
كان رسول حمزاتوف شديد الاعتزاز بأرضه داغستان، وهي أحدى جمهوريات روسيا الاتحادية، بينما ظل كبيرَ الامتنان لوطنه الأكبر، شديد الانتماء للناس على مختلف انتماءاتهم، إذ لمْ ينسَ أن يكتبَ قصيدةً إنسانية لجنود هيروشيما، ولا رابطة كانتْ بينه وبينهم غير الآدمية.
جاءتْ قصيدتُه -الكركي- ذا مغزى إنساني، وصفَ الجنودَ الذين لمْ يعودوا من حقول الدمِ المسفوك إلى حقول الحياة فقد أصبحوا طيورًا - طيور الكركي - ولمْ يموتوا قط، وها أصواتهم صادحةً في السماء.
يرتبط الكركي ببعض الأساطير القديمة عند اليابانين، كذلك حاز من خلال  قصة الفتاة اليابانية ساداكو ساساكي التي تعرضت إلى شعاع القنبلة الذرية.
حمزاتوف أديبٌ أممي بإنسانيته، والأديب وإن اعتز بمبادئه الخاصة وذاتيته، من الضرورة أن يكون أمميًا لا محليًا ضيقًا، لكن الأممية في الانتماء إلى كيان الإنسان، دون النظر إلى الانتماءات الفرعية، واستذكر ما قاله مظفر النواب الأممي الذي أصرَّ على أن ينتمي الفردُ إلى وطنه دون سواه وأن تكون أمميته بحب الوطن: "قد ولدتُ على دجلةَ، ليت أني أُسَجّى على مائه عاريًا، باحتضاري، ويأخذُني أينما شاء، إذ إنني أُمميٌ، ولكني بحبِّ الوطن". وأضاف ثائر بقوله: أتساءلُ كيف لأديب أن يكون "خرقة مسحٍ" تمسحُ به دولُ الغيرِ الأرضَ لتزيلَ آثار الجريمة، وتمسحَ بقعَ الدم، وهو لا يدري أو يدري أنه يحدّ سيوفَهم ليجتزوا رؤوَس أهلِه أو من يشترك معهم بصفاتٍ إنسانية.
أديبٌ من هذا النوع، هو مساهم في "الفساد الثقافي" إذا ما اتفقنا على هذه التسمية.  إذا ما تسيّدَ المشهدَ الثقافي أدباءٌ على شاكلة "خُرق المسح" فمن شأنهم أن يطيحوا بثقافة بلدٍ ما.  أستذكر  قولًا يُنسب إلى الأمام علي (ع): "إذا ظهرَ الفسادُ سادَ اللئامُ، وإذا سادَ اللئام أُضطُهِدَ الكرامُ".
والفساد ليس العمل اللا أخلاقي، وخيانة الضمير واستغلال المُتولي على ما وليَّ فحسب، أنما ينسحبُ على انحياز المرء لأصدقائه ولحاشيته والمقربين إليه دون غيرهم أيضًا.
وهذا كثيرًا ما يحدث في شتى الأوساط، والأدبية منها، التي تعاني غيابَ الوعي المعرفي، تجاه القضايا الكبرى، ما معنى أن يُغيبَ أديبٌ مجرد من أية أيديولوجية ويُلمع أديبٌ لمجرد أنه صديق الأديب فلان أو قريب من أصحاب القرار في الحياة الثقافية، غير الفساد؟
أن الحياة الثقافية اليوم مريضة، وبحاجة إلى علاج غال الثمن، بدءًا من تراخي النقد وركوده والرقص حول دائرة معينة، وعدم مواكبته للحياة، وجنوحه لما وجد أباءه عليه، متناسيًا أن من سمات الإنسان البحثَ عما هو جديد ومتطور، عارضًا أوراقه وكلماته على الأقربين ليصنع نجومًا زائفة، متكاسلًا عن البحث عن أدباء أهل دراية وأبداع، أو ربّما تقصد النقد أن يغض طرفَه عنهم.
كذا الحال بالنسبة للصراع بين الأجناس الأدبية والأشكال الشعرية، وهي لا ذنب لها فالإبداع أين ما حل يحل جميلًا، لكن فقراء المعرفة يصطفون لجنس على غيره، لكني أرى أنه مُبررٌ هذا الفعل، بعض الأحيان؛ من باب ما تهفو إليه النفس وتسعى إليه، ولكن ألا يُغيب جنسٌ أو شكلٌ أدبي قصدًا.
وأود الإشارة إلى بعض الأجناس الأدبية التي غابت بفعل الزمن، وعدم مقاومتها الحياة، فهذا غياب آتيًا من داخل الجنس الأدبي نفسه لا بفعل خارج عنه.