الجمالية السيلينية.. عَبثية الحياة

ثقافة 2024/04/17
...

 لايتيتيا فافرو
 ترجمة: هدى حمودة

أسلوب الكاتب الانفعالي، يترجم حقيقة عارية من فِتنتهَا، وهو بالأساس ُرؤية متشائمة من الحالة الإنسانية. هي تلك النظرة المُعبرة من دون فلترة ما خلق من سيلين هذه العبقرية الوحشية التي وبعد ستين سنة من رحيله، ما تزال تفرق.
"أنا لا أحب سيلين، فنثره رَجعي، مُتثاقل ومتكلّف، مُتملّق برجوازي أو "محتمل"، يمكن أن يكون في الرواية الأخيرة لفيرجيني دبانت “عزيزي الوغد” شخصيتها الرئيسة, “Oskar Jayack  “.
كان سيلين يقلد الخطاب البروليتاري طمعا في الغونكور، بمعنى أنه كان يعرض على المجتمعين الأَجير الذي يتوقعونه.
ضئيل، بليد ومنفلت، معاد للسامية، عاجز عن المعاشرة.
لاحقا، قرأت منشوراته المعادية لليهود وأدركت أن الوسط الباريسيّ ممتن له أكثر، على هذا– مظهر التآمر لمُخاتلة السلطة- هوُذا
ما يثيرهم.

أن تهمس في أُذنِ القارئ
أسلوب، لهجة، نثر وترابط الأفكار. مع سيلين وكما يؤكده المقطع الذي من دون شك أحدثُ ما نُشر عنه، يبدو أنه من غير الممكن فصل الفنان عن الإنسان – وعمّا يَختمر في رأس هذا الرجل.
في مَجمِعنا الأدبي، يمثل علامة فارقة: صنّف رفقة بروست، كأكبر كتاب القرن العشرين، فرحلته إلى أقاصي الليل 1932 درّست في الثانوية بينما مشروع إعادة طبع كراساته (Bagatelles pour un massacre ,L'Ecole des cadavres et Les Beaux Draps) يثير الكثير من الجدل (هذا المشروع مؤجل منذ سنوات عديدة).
كيف يمكن لمن عرف بكتابة الصفحات الأكثر محاكمة في تاريخنا أن يصل مرتبة الكلاسيكية، بعبقرية - وحشية بالتأكيد لكنها على أي حال عبقرية!.  
لطالما رفض سلين تمرير أفكار في نصوصه "أنا لا أرسل رسائل إلى العالم.
أنا !لا. سيدي. لا أثقل الأثير بأفكاري. أنا !لا! سيدي!". يَجهَر في حواراته مع البروفيسور y، مقابلة متخيلة ظهرت عام 1955، حيث يستعرض بحماس أسلوبه في الكتابة، القناعة ذاتها كانت قد ظهرت في رسالته لميلتون هندوس: "أن تجدني أسلوبيا، يجعلني سعيدا – أنا هذا قبل كل شيء – رَأيُ مُفكِّرٍ،
يا إلهي".
الأسلوب قبل كل شيء. نَسق متفرد يبتكر لهجةً، ويعيد تشكيل اللغة. لأنه يتقن الفرنسية تماما قبل هَدمها، ليمنحها هذه الشفهية التي تشكل سمتها الرئيسية.
"إدخال اللغة المحكية إلى الأدب، ليس اختزالا. عليك أن تَطبع على العبارات والمراحل بعض التَّحريف، تلك البراعة التي حين تقرأ الكتاب يبدو وكأني أهمس في أُذنك”.
يضيف في ذات الرسالة "هذا يتحقق بتبديل كل كلمة، والتي لا تكون أبدا ما نتوقعه بالتحديد.. مفاجأة صغيرة.. لإحداث وقع الحياة المَحكية، العفوية على الصّفحة، ينبغي تقريب اللغة من كل شيء، الإيقاع، التَّناغم، الكلمات، وشيئا من الشعر ما يمنح أفضل سحر- الإحساس، السحر، الدّيناميكية، ومن ثم ينبغي أيضا اختار موضوع، يجب أن تكون مواضيع حيوية – فليست كلها قابلة للنَّقل.
يَغرف سيلين هذه المواضيع من الحياة المادية، مادية تحولت إلى كلمات يوظفها. مشتغلا على المادة مباشرة، يحظر الكاتب، ساخرا من معاصريه استخدام "القفازات البيضاء": الكلمات مادة أولية حيث عليه أن يغمس يديه عاريتان والحياة عجينة للاشتغال."
أحمل الحياة إذن بين يدي الاثنتين مع كل ما أعرفه عنها (...) بعد دَعكها قدر المستطاع، نقول نحن، بشر، حيوانات وأشياء وفقا لِحواسنا، وذاكرتنا العاجزة، بتواضع، (...) نحن نَمدّ الكل (...) واقفةً، كانت الحياة؛ هاهي ذي نائمة، لا هي ميتة ولا حية تماما.. عجينتناَ مُنبسطَة.. بين شُقوق الماكينة، متماسكة، مطواعة لنا (...) إنها لحظة الحقيقة الأشد إيلامًا، ها هي ذي، تلك العَجيبة، معذبة بالتمرير والاتّساع، لحدِّ التّمزق تقريبا.. ليس تماما.. إنها تصرخ بقوة.. إنها تعوي.. تئن.. تتوقف عن الحركة.. لدَينا مشكلة.. لا ينبغي أن نتركها ترتخي.. إنها تحدثك إذن بنبرة مُمزقة غريبة.

انهيار في العالم
رؤية الكتابة هذه مرتبطة ارتباطا وثيقا بعنصرين ذاتيين: الطب فسيلين على اتصال بالأجساد، والمرض وهشاشة الإنسان.
كثيرا ما يُصَنف مُفسروه أطروحته للدكتوراه المُخصصة لطبيب التوليد المجري Ignace Philippe Semmelweis (المعروف بسَعيه من أجل غسل الأيدي في الوسط الطبي) كأولى نُصوصه الأدبية العظيمة.
منذ سفره للكاميرون عام 1916 حيث توفيت إحدى مرضاه عقب الإجهاض، كان سيلين يعرف كل شيء عن اللّحم، وتعرّف عليه أكثر حين عايش مجزرة الحرب العالمية الكبرى.
جماليته مقترنة بهذه التجربة الصَّادمة، مُؤَسِّسة عَبقريته الأدبية. عبر الكلمات ينوي سيلين أن يُعبّر عن الانهيار العظيم للعالم كما باطن الأجساد، ضمن أسلوب عاطفي في قلب فنه الشعري "أنا متحمس مع الكلمات، لا أمنحها الوقت لتتلبس بعبارات.. آخذها خاما تماما، أو بالأحرَى شِعرية -لأن جوهر الإنسان رغم كل شيء هو الشِّعر".
(رسالة إلى ميلتون هندوسMilton Hindus  5أفريل 1946).
بقلمه، يرغب أن يستعيد عاطفة اللغة المحكية، لذا يستخدم نقط التعليق، والعامية، لغة بنغمة شعبية، لكنها ليست اللغة الشعبية التي يتهمونه دائما بانتحالها ليحس بالجانب الآخر من الحاجز- إذ يَنحَدر من برجوازية صغيرة، وانضم إلى المجمع الأدبي بعد ظهور رحلته إلى أقاصي الليل.. رَفضُ لجنة تحكيم جائزة الغونكور منحه جائزته, كالفشل التجاري لعمله “Mort à Crédit -1936” يؤسس لعلاقة جدلية مع القرّاء الذين يلامس سيلين ذائقتهم، بالنسبة للمزيفين، وللمساكين الآخرين ولغتهم الأكاديمية المُحنطة.
منفلتا من كل الأعراف الأدبية في عصره، يحاول ترجمة بكل الأمانة الممكنة، الدفق العاطفي الذي تضعه الحياة في كل واحد منا وينطلق بقوة كتابته داخل قطار العاطفة المندفع بأقصى
سرعة.
بالكلمات يريد سيلين أن يركل مؤخرة قُرّائه.
تجنبا لوقوعهم في قالب الكاريكاتير الذاتي والذي تمثله بعض نصوصه الأخيرة، من بينها "Féerie pour une autre fois(1952)،Normance(1954) “ أو "  D'un Château L'autre- 1957" ", المفككة في حبكتها والمشلولة بالمحاكاة الصوتية ما يجعلها بالكاد مقروءة.
بالحديث عاطفة القارئ، وبوضع هذه الأخيرة في صف الأول للحقيقة الخام، تفقد كتب سلين أحيانا صوابها.
لكن القليل من النصوص الأخرى تقدم مواجهة جدّ متطرفة مع عالم عاري من البهرجة الذي في الغالب تَطويه اللُّغة، مع هذه العَبثية التأسيسية للحياة ذاتها، بالنسبة للكاتب رغم تشاؤمه السوداوي، هي تجربة الكتابة هذه المرتبطة ارتباطا وثيقا مع الأسلوب ما جعل من سيلين حَتمِيةً.

المقال مقتطع من ملف كامل أعدته مجلة ليرLire  الفرنسية عن الكاتب الفرنسي لويس فرديناند سليلين في عدد أكتوبر 2022.