كوابيس {منازل العطراني} وأحلامها

ثقافة 2024/04/18
...

 كاظم جماسي 

في المنجز العربي من السرد الروائي، لم يكتب الكثير في الأدب السياسي، وأدب السجون منه خاصة، بمحدودية ماقرأت بالطبع، كتب محفوظ "الكرنك"، فاضل العزاوي "القلعة الخامسة"، أبراهيم الحريري "الاعتقال"، عبد الرحمن منيف "حين تركنا الجسر" وروايتيه "شرق المتوسط" و"شرق المتوسط ثانية"، وصنع الله ابراهيم" اللجنة ".

وبعد زلزال  2003 في العراق، وزوال لجام الديكتاتورية البغيض، انهمرت سيول جارفة من الأعمال السردية التي عنونت نفسها بـ "روائية" وهي في معظمها ليست سوى سير ومذكرات ذاتية، لم ينتبه كتّابها إلى الفوارق النوعية بين جنسين إبداعيين من النتاج الأدبي "السيرة ذاتية" و "الرواية".

 قد يذهب ظن البعض من القرّاء العجولين، ونحن بصدد "منازل العطراني" لجمال العتابي لأن يصفها بسيرة ذاتية، غير إن ما يشكّل سداة ولحمة العمل السيري، الشخصية المحورية "الأنا" بتفاعلها، واستجاباتها رأيا وسلوكا، مع مامرّ بها من ظروف وأحوال على خلفية من ظلال أحداث وشخوص تتماس، إيجابا أوسلبا، مع أنا الشخصية المحورية في زمان ومكان واقعيين ومحددين وباشتراطات تأريخية اجتماعيه. فيما العمل الروائي يمكن له، فضلا عن تناوله الواقعة التأريخية وشخوصها، عبر نسيج سردي مؤتلف واقعاً وخيالاً، للإبلاغ عن "وجهة نظر" كما يشير إلى ذلك بيرسي لوبوك في مؤلفه "صنعة الرواية " ترجمة د. عبد الستار جواد. 

وكما أنه ليس من كتابة تنبع من العدم، فلسنا نكتب إلا ماعشناه، وقائع حياتنا وحيوات الآخرين، إرهاصات أرواحنا، رؤانا وأحلامنا، فقط معالجاتنا في كيفية الكتابة هي المسؤول، في النهاية، عن وضع ماننجز في أية خانة من خانات الجنس الإبداعي.

" منازل العطراني" ليست سيرة ذاتية، فبعد أن استخدم الكاتب أساليب سرد روائية عدّة، فضلا عن توافر أركان الصنعة فيها، كما سنأتي على ذكره فيما بعد، سيضعها القارئ بالضرورة في خانة الإبداع الروائي. 

وفي النهاية سيكون الرهان فيصلا أخيرا على الفن، بصيغة إجابة عن السؤال التالي: كيف عالج مبضع الجرّاح، قلم الكاتب، محمول رسالته الأبداعية، ماعاشته وكابدته شخصيات عمله، ما ضمّنه في طيات المعنى وما أفصح عنه، وهل لنا أن نصفه بجراح ماهر أم لا..؟ 

"منازل العطراني" لم تكُ سيرة ذاتية على الإطلاق، بل كانت، كما بدت لي، سيرة بلاد، تمظهرت ببانوراما اختار لها الكاتب مقطعاً زمنياً بدء قبيل الإسقاط القهري للحكم الملكي في العراق، ولم ينته، في "نهاية مفتوحة" حينما "لم يطلع عليها ـ زهرة ـ الفجر"، الجملة الختامية للعمل ـ البانوراما، الموحية بأن فصول المأساة لم تزل تترى، ولم تنقطع عن إلحاق أشد الأذى بزهرة، المعادل المكتمل الدلالة لـ" البلاد". فقد طرق أبوابها المارينز، ليبدأ فصلا جديدا من العواصف المتوحشة وذيولها معيثة بها خرابا شمل زرعها وضرعها ولم يزل.

لم يكُ تمرّد محمد الخلف على أسوار سجنه، ولجوئه إلى أبناء عمومته في نواحي وقرى الجنوب، هروباً من سجن، بل محاولة للتضامن مع أبناء جلدته إزاء مكابدتهم اليومية طغيان وعسف السلطات الحاكمة، واتحاداً معهم في السجن الأكبر الذي يسوّر البلاد جميعها، قراها ومدنها، حيث الخيمة المكفهرّة للخوف تطأ بثقلها المفرط فروات رؤوس الجميع، والأنياب الباشطة لغول الفقر تنهش جهاراً نهاراً، الأجساد الناحلة لفلاحيها وعمالها، رجالها ونسائها، وأطفالها أيضاً، بينما، وبمواجهة نادرة البأس، وبنبلهم وسخاء أرواحهم، يقف أولئك المضطهدون وبشجاعة لافتة، صامدين مصرّين على انتصار الحياة.

شغل ذلك كله الساعات الثقال من هواجس الطريد "الخلف" مقيماً في.. أو متنقلا بين مخابئه في "العطرانية" يمضّ بروحه الحنين للقاء البعيدين هناك في بغداد العاصمة "زهرة" زوجته ونسلهما من الأبناء.

بدت الأحداث الفاصلة في تاريخ البلاد واضحة بتفاصيلها، منعكسة، كما على مرآة، في تفاصيل حياة صاحبنا "محمد الخلف"، فثورة 14تموز‘ وقد استبشر بمقدمها المضطهدون، ووقف بدءاّ في صف حكومتها اليسار العراقي، مالبثت حتى راحت تأكل أبناءها، لتحلّ بالبلاد أشدّ كارثة جرماً وإيلاماً، هاوية البعثيين الشباطيين السحيقة، وأندفع حرسها النازي اللاقومي، كما وحش مفترس أعمى، يبطش برقاب الناس سيما قوى اليسار منهم. لتتراكم خيبات محمد الخلف وتطحن ما تبقى من آمال لديه ولدى الناس من حوله بغد أفضل.

مع مضي مسلسل وباء الذعر مما ستحمله اللحظة التالية في عقل ووجدان الخلف وعائلته وعموم ناس البلاد، مخافة أن تدهمهم ذئاب الليل، تتراكم الأحكام غيابا على السجين الهارب، لتربو على العشر سنوات، ومثلما تعصف بروحه هواجس الخوف، وهو يتسمع الأخبار من مذياعه الشغّال بالبطاريات كامناً في عرينه الريفي، راحت تلك الهواجس ذاتها، وبنحو مضاعف تنهش قلب" زهرة" شريكته المكافئة في مشوار العذاب، وهي تنوء بحمل معيشة أربع بنات و ستة أولاد، هلعها حين يغيبون خارج الدار، مضافاً إليه وساوسها المدمّرة بشأن مصير "خالد" ابنها الأكبر، رازحاً تحت نير معتقلات "الحرس اللاقومي".

"زهرة" التي تنتهي إلى قلبها مسارات المصائب جميعها، بدت الشخصية المحورية للرواية، وما سداة ولحمة السرد من دراما الحدث وتناميه، وعواطف وأفكار الشخصيات، ورسومات بيئة الأمكنة، ريفية كانت أم مدينية، وتحولات الزمن السردي ـ التاريخي معاً، إلا ونجد صداه أو رجعه القريب في شخصية "زهرة" التي في النهاية معنى اسمها يدل عليها.

في مقطع فائض بالوجد ومثير للتعاطف، يخبرنا السارد: "ما من مغيث لصراخ الأمهات، بعد مضي سنوات كان المرض يهرش في جسد الأم، يتآكل وتذبل أجفانها، كانت ترى عامرـ ابنهاـ تخيط له ثوباً يتمناه في العيد، من أين يأتي أبوه ببدلته؟ والخوف يطوّق سوق المدينة!".

لابد من التنويه إلى أن "زهرة" لم تكن وحدها من عبّرت عن الوجه الحقيقي والأكثر نصاعة لمجالدة المرأة العراقية وبطولتها، فقد فعلت ذلك البنت الكبرى "محسنة" وقد كاد نظرها يعتم من كثر ما خاطت على ماكنة الخياطة نضالاً لدرء شظف العيش. وكذلك فعلت "شكرية" الجميلة الريفية زوجة عباس، حين نهضت، كما مهرة أصيلة، بالأعباء المنزلية لعائلة نوار، منذ أن تشجر تنور الخبز فجراً، تطعم الجميع خبزها الحار، حتى حلب ضروع الأبقار مع كل غروب للشمس، بنفس باذلة معطاء بصمت ووجه بشوش يديم الأمل  بغدٍ أجمل. 

كما سير سلحفاة راح الزمن يمرّ على صاحبنا الخلف، روحه اللائبة تتناهبها الشكوك، ومنامه مثقل بالكوابيس، فيما يظل موقناً إذ يحدث نفسه: "ليس بوسع أحد أن يبلغ الفجر دون المرور بطريق الظلام".

وقد اختزل السارد، كما بدا لي، الثيمة الأساس لعمله برمّته، بهذه الجملة البليغة والدالّة. عملا بما هو معروف لدى كتّاب السرد من ذوي الحرفة، ان ما ينبغي عليهم زرع ما يكفي من المغاليق، ليس أقل أو أكثر، مما تقتضيه حاجة النص والإمساك بعنان فضول القارئ، ومن ثم اشهار"المفتاح" المناسب لفتحها، مكافئة لصبر القارئ، وقد أجاد المؤلف العتابي فعل ذلك.

ربما أضحيت مسترسلاً في ذكر الوقائع وبعض من تفرعاتها، قطعاً لستُ أبغي استعادتها جميعها، فأمسي مفسداً متعة سفر القارئ مع تدفق سلاسة لغة السرد وخيطية تتابع الأحداث مطعمّة بصدق الواقع مدافاً بتحليق المخيلة.

ما حسبته قراءتي الخاصة للعمل وأحسبه بدوري للمؤلف بوصفه مهندس بناء العمل، أولا: لم ألمس شبهاً بحدود ما قرأت، هذا النجاح اللافت في تحول ضمائر السرد/ الراوي العليم والمتكلم والغائب والمخاطب، وجميعها تتعاضد في الخفاء، وخفاؤها لوحده هنا، ميزة أساس في مهارة الصناعة السردية، لتديم أداء مهمة الاخبار والتوصيل بيسر واضح.

وثانيا: شكّلت مقاطع الكوابيس والأحلام التي وضعت بدراية ومهارة، كفواصل في مسير السرد مناطق عائمة أنقذت السرد من الغرق في أمواه الوقائع المتلاطمة، كما أبلغت بخلاصات دالّة عن تفاعلات تلك الوقائع.

وثالثا: جرياً على مثل الأهزوجة الشعبية وقتها "خروشوف نادى بالسما ماكو زعيم إلا كريم" واهزوجات وأمثال شعبية بثّها السارد هنا وهناك، متعاضدة مع سياق لغة سرد مطواعة، خالية من حذلقات لغو اللغويين، جعلت من قراءة هذا العمل، فضلاً عن متعة قراءته الغامرة، ميسوراً للنخبة وللقراء من غير ذوي الحرفة استلام رسالته وأظنه سيشكّل علامة في ذاكرتي في الأقل، وأظن أيضاً في ذاكرة قارئ خالص النية، مقيمة إلى وقت يطول.

رابعاً وخامساً و.. و.. 

لن أطيل ولكن العمل يستحق منا قول الكثير.