أنساق السرد الفانتازي في {خمسة ميل}

ثقافة 2024/04/18
...

  د.سمير الخليل


تضعنا المجموعة القصصية الموسومة "ضياع في خمسة ميل"لحسن السلمان إزاء عوالم ملتبسة تمزج بين الواقعي والفانتازي لاستظهار القيم والترّسبات والرؤى التي تشكّل عمق الأبعاد السياسية والاجتماعية والسيكولوجية. وقد تأطرّت هذه القصص بالنزعة الوجودية الباحثة عن الحقيقة والذات والآخر عبر تنافذ جدلي يعكس جوهر الصراع القائم في هذا الواقع الملتبس والمأزوم بفعل تصاعد حدّة الصراع والاحتدام بين القيم المتباينة والمتضادّة وصولاً إلى تحقيق كشف للمضمر وتعالقه مع الظاهر. ووفق هذا فإنّ القصص عبرّت عن اشتغال فكري لرسم ملامح هذا التعالق القائم بين "الحقيقة والوهم"، و "الماضي والحاضر"، و "الحلم والكابوس"، و"الظاهر والباطن"، و "الواقع والرمز"، و "القوة والضعف".

انطلاقاً من سيميائية العنوان، فإنّ أغلب الشخصيّات تبدو قلقة، باحثة عن ذاتها، وعن مصيرها ومستقبلها، وهي شخصيّات مأزومة وزئبقية تعاني ضياعاً وتشتّتاً وتتحول عبر المعالجة الفكرية إلى دال تعبّر مدلولاته عن إدانة الواقع وتعرية تفاصيله وثوابته، وليس مصادفة أن يدلّ العنوان على الضياع والتشظّي في فضاء مكاني وسيكولوجي ووجودي ومع نزعة للتماهي والتناص مع رواية"ضياع في سوهو"لكولن ولسون التي تكشف عن أسلوبه للمزج بين الواقعي والخيالي والسيكولوجي والتعمق في رصد الظواهر الغرائبية. وكشفت المجموعة عن نزعة لارتياد عوالم اللاّمعقول واللاّواقعي عبر التأطير الفانتازي والتقاط تجلّيات التجريد العالي الذي تكشف عنه الظواهر الغامضة، ويصبح الغموض وسيلة جاذبة وبؤرة استقطاب للمتلقي الذي سيجد انحرافاً لتوظيف هذه العوالم الملتبسة وضع في إطار استنطاق وتأشير الهشاشة التي تعانيها الحياة الإنسانية، ويصبح الإشتباك مع هذه المدلولات وسيلة للكشف والإقتراب من أسئلة ترتبط بالمعنى الإنساني وبظواهر الواقع بأبعاده السياسية والاجتماعية والوجودية والسايكولوجية ولم يكن النسق الفانتازي مجرد لعبة رؤيوية لتحقيق المغايرة الشكلية بقدر ما كان ملمحاً فنيّاً لاستقطاب فعل التلقي.

ولم يكن الغموض إلاّ طريقة لاستلهام المعنى إذ لم يكن غموضاً شديد العتمة، بل كان غموضاً شفيفاً لإثارة الاهتمام وتعميق قوّة الاستقصاء والبحث عن المعنى الخفي والمترّسب والضمني.

ويمكن القول إنّ القصص الإحدى عشرة قد عبرّت عن هذه المحمولات بطريقة أو بأخرى وظلّت تدور في عوالمها ودلالاتها بهذا الشكل أو بغيره، وفق صياغة سرديّة ارتكزت على الإختزال وعدم الانسياق إلى الفائض السردي بسبب الإرتكاز على منحنيات ودلالات محدّدة شكلّت البؤرة المركزية لها، ويمكن الاستدلال على المعنى الذي تضمّنته العتبة الأولى الذي يكشف عن الحقيقة التي تبقى بعد كلّ لحظات وأشكال الفعل والإحتدام وكانت العتبة استعارة لمقولة ماركيز:"لقد انتهى كل شيء، وبقى ذلك الأسى الغريب الذي لا يعرفه سوى كنّاسي المسرح بعد خروج آخر الممثلّين".(المجموعة:5)، ومن المهم التركيز على هذه الرؤية التي تبحث عن الفعل المتبقّي لكلّ هذا الصخب و "الأسى الغريب"، وهذا هو المدخل إلى غرائبية وفانتازية هذه المجموعة، وإنّ هذه الدلالات والمحمولات تتناول نماذج دالّة من قصص المجموعة.

ولعلّ قصة "ضياع في خمسة ميل"تجسّد حياة الجندي الذي يعمل في اكاديمية الدراسات البحرية الذي قد تعرّف على "زهرة"وابنتها "حبيبة"وتتوطد العلاقة بينهم حتى أنه لم يعد يرغب بالنزول إلى أهله أيام الاجازة ويسكن معهما في البيت نفسه وتتوطّد علاقته العاطفية بالإبنة "حبيبة"غير أنّ مسار القصّة ينحرف باتّجاه التعقيد والتأزّم بظهور شخصيّة "أيوب" أحد أقرباء الأم، ويبدأ بممارسة سلطته وهيمنته على المرأتين ويحرض على طرد بطل القصّة وضرورة التخلّص منه كونه غريباً عنهما، وحين يشعر الجندي بهذه المشاعر السلبية العدائية تجاهه لم يجد وسيلة سوى التخلّص من "أيوب"وبدأ يفكّر بوضع السم له أو قتله برصاصة أو حرقة لكن فعل القتل شكّل النهاية التي صمّم وتوجه إليها الجندي سواء في الواقع أم في كوابيسه الذاتية، والقصّة ترصد التناقض في الفعل بين الإنسان والمكان والبيئة كما نجد هذه الدلالة تتكرّر في أكثر من نص.

ومن بين القصص التي تتمحور حول الرؤية الفانتازية هي قصة "الهروب إلى المتاهة"التي تقدّم شخصاً يعاني من رائحة مزمنة وثابتة في جسده ولم يستطع التخلّص منها، "تلثّم جيداً وحاول بشتى الصور والسبل أبعاد تلك الرائحة المقرفة التي جعلت من حياته جحيماً لا يطاق ولكنّه لم ينجح كانت تلك الرائحة التي تشبه رائحة جثة متفسّخة تتغلغل في أعماقه وتطبق على قلبه فيشعر بالاختناق والغثيان وكأنّ روحه مستودع جسده الذي راح يذوي ويتضاءل مع مرور الأيام بعد أن فقد شهيته للطعام ولم يعد يتناول إلاّ القليل وتأتي النهاية بعد مكابدة طويلة لتحل لحظة التخلّص والتحرر من تلك الرائحة، والمغزى الدلالي يكمن أن بعض الخطايا والعلل تكمن في أعماق الذات.

ومن النصوص المهمة والمؤثرة في المجموعة هي القصة التي حملت عنوان "ملكة القمامة" وهي ارتحال سردي ناجز في عوالم النفايات وغرائبها، ووجود أسر ورجال وأناس يعيشون على تلالها ويتعاطون معها، لكن "عبير" تتعرض إلى أمراض كثيرة تنخر جسدها النحيل بسبب انبعاثات النفايات وروائحها مما يجعلها تعاني، ويضطر الأب إلى أخذها إلى المدينة لمعالجتها من هذه الأدران الغريبة ولنلاحظ التناقض الذي يشكّل ايحاء رمزيّاً بين تضاد الدلالة بين اسم "عبير"والروائح الكريهة وهي تعاني أيضاً من بخل وسلبيّة زوجة الأب،ويمكن الاستدلال على البيئة الغرائبية والقسوة التي تجسّدها شخصيّة زوجة الأب إزاء إنسانة تعاني وتذوي وسط النفايات لكن زوجة الأب تنظر إلى الابنة كونها أجيرة وكونها تجلب لهما النفع من دون الاهتمام بها كإنسانة، ولعلّ من أهم دلالات القصّة التداعي أو الاستذكار الوجداني الذي انتاب "عبير"وهي تسترجع ألم ومعاناة أمّها في مخاضها القاسي،مما يوحي بأنّ القاص قد صنع لها واقعاً مؤسطراً لعالم النفايات ومجتمع النفايات التي يتوارثها الناس ويرثون منها ما هو مؤذٍ ومقزّز وفي المعنى الخفي للقصّة يمكن الاستدلال على نقد الفقر والعوز والفاقة التي تؤدّي إلى صناعة عوالم البؤس الفانتازي، ولعلّ هذا الاحتدام بين الحقيقة والدلالة والواقع والرمز هو الذي جعل هذه القصص تكتسب خصائص النص المركّب الذي يرصد الوقائع والظواهر الغريبة ويتعمّق بها للكشف عن تناقضاتها وجوهرها المأزوم كوسيلة لإدانة الشروط والعوامل التي أدّت إلى وجودها، وقد صور انعكاس هذا الاحتدام على مستوى الواقع وعلى الشخصيّات التي بدت وهي تحاول التشبّث بالواقع والصراع معه من أجل بقائها، وفي الجانب الآخر من معادلة هذا الصراع يمكن التعاطي مع قلق العلاقة بين الذات والآخر تلك العلاقة الملغومة التي كشفت عنها أكثر النصوص ممّا منح السرد بعداً درامياً ودراماتيكياً في أحيان أخرى وجعل القصص تركّز على دالّة الصراع من خلال الاقتراب من الشخصيات وتصوير الواقع القلق والزئبقي الذي تعيش في خضمّه.