د . صادق كاظم
مرت العلاقة بين بغداد وواشنطن بمراحل متذبذبة خلال الفترات السابقة، إذ إنَّها لم تستقر يوماً على شراكة أو تحالف باستثناء فترة صغيرة خلال العهد الملكي عندما دعمت واشنطن حلف بغداد الذي قام رئيس الوزراء الأسبق ورجل السياسة المهم نوري السعيد برعايته والإشراف على تأسيسه، حيث دخلت واشنطن في تحالفٍ سياسي وعسكري مع بغداد، وقيل إنَّ مفاعلاً نووياً أميركياً صغيراً كهديَّة من واشنطن كان في طريقه الى بغداد في تموز من العام 1958، لم يتسن له الوصول بسبب أحداث ثورة تموز من العام 1958، إذ قرر الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم عقب ذلك التحول صوب المعسكر الاشتراكي بزعامة السوفييت أعداء واشنطن اللدودين، ما تسبب بقطيعة سياسيَّة مع بغداد استمرت حتى شباط من العام 1963 عندما دعمت واشنطن بوضوح انقلاب البعثيين الذي أسقط نظام قاسم وأدخل العراق في المدار الأميركي لفترة قبل أنْ يخسر الأميركيون هذا النفوذ مجدداً مع عودة البريطانيين الى العراق بعد انقلاب تموز من العام 1968، حيث أطاح البعثيون حلفاء لندن برجل الاستخبارات والأمن عبد الرزاق النايف وصديقه قائد الحرس الرئاسي عبد الرحمن الداوود بدعم بريطاني سري ظلَّ مستمراً حتى نهاية العقد الثمانيني من القرن الماضي. قطعت العلاقات الدبلوماسيَّة مع واشنطن وأعيدت مرات عديدة قبل أنْ تقطعَ بشكل نهائي مع غزو الكويت في العام 1990 بعد شهر عسل قصير مع نظام البعث لم يستمر طويلاً، إذ قرر الأميركيون بعد ثلاثة عشر عاماً من ذلك الغزو إسقاط النظام في حملة عسكريَّة تعدُّ الأقوى منذ الحرب العالميَّة الثانية. دخل الأميركيون الى العراق من دون خبرة سابقة في حكم أو إدارة هذا البلد الصعب والعصي على الغزاة تاريخياً. حاول الأميركيون استنساخ تجربتهم في اليابان بعد الحرب العالميَّة الثانية وكذلك في ألمانيا، لكنَّ هذا السيناريو لم يكتب له النجاح عندما تخبط الأميركيون في نظرتهم واختيارهم للطريقة المناسبة لحكم العراق، إذ كانوا يفضلون الحكم الانتدابي المباشر بانتظار توفر الظروف المناسبة للسماح للشعب العراقي باختيار مؤسساته وهو أمرٌ لم يكن ممكناً مع دخول قوى إقليميَّة ودوليَّة عملت على تصفية حساباتها مع الأميركان على الأرض العراقيَّة من خلال أدوات من مجاميع إرهابيَّة إجراميَّة وشرسة استغلت هذا التواجد الأميركي لشن أعنف حرب إبادة ضد الشعب العراقي الذي كان مصراً على إنهاء الاحتلال بالوسائل السلميَّة والانتصار على الإرهاب عبر بناء مؤسساته السياسيَّة والدستوريَّة التي تكاملت وسهلت في النهاية مهمة تسلم السلطة من واشنطن وعودة العراق بلداً مستقلاً ذا سيادة على أرضه.
بعيداً عن الفرضيات السياسيَّة التي تتحدث عن الهيمنة الأميركيَّة وربط العراق بسياسة المحاور الداعمة لواشنطن في المنطقة فإنَّ وضع العراق في الاستراتيجيَّة الأميركيَّة قد تغير، خصوصاً بعد الانسحاب الأميركي من العراق في العام 2011، إذ باتت هناك محاور وتطلعات جديدة لتأطير العلاقة بين واشنطن وبغداد على مختلف الأصعدة وفق نظرة شاملة تقوم على احترام السيادة العراقيَّة ومصالح البلاد العليا وفي الوقت ذاته التعاون مع واشنطن في مختلف الملفات والقضايا المشتركة التي تهدف الى إرساء الأمن والاستقرار في المنطقة عبر إيجاد أرضياتٍ مشتركة من خلال الحوار والتفاهم بعيداً عن لغة الحروب والتصادم.
تعدُّ زيارة رئيس الوزراء السيد محمد شياع السوداني الى واشنطن حدثاً مهماً على صعيد العلاقات، لا سيما بعد مرحلة الاستقرار النسبي التي يمرُّ بها العراق والتي باتت تشجع السوداني على طرح أوراق التفاوض مع الإدارة الأميركيَّة والتي من بينها إنهاء التواجد الأميركي العسكري على أرض العراق، خصوصاً مع تصاعد القدرات القتاليَّة والفنيَّة للقوات والأجهزة الأمنيَّة العراقيَّة المكلفة بواجب حفظ الأمن والتصدي للإرهاب، الأمر الذي يسحب مبررات وجود هذه القواعد التي تعلم واشنطن أنه ليس لها من ضرورة هناك، خصوصاً أنَّ وجودها يتسبب بإشكاليات أمنيَّة وسياسيَّة للعراق نتيجة لتداخلها وارتباطها بالسياسة الأميركيَّة في المنطقة وسوريا والعلاقة مع إيران بالذات، فضلاً عن ذلك فإنَّ كلا البلدين يتطلعان لبداية ناجحة وقويَّة تختلف عن مراحلها السابقة التي كانت تتسم بطابع أمني أخذت مهمة التصدي لإرهاب العصابات الإجراميَّة لتنظيم داعش النصيب الوافر منه.
من المؤكد أنَّ السوداني حمل في حقيبته العديد من الملفات التي يرغب في إيجاد تفاهمٍ مشتركٍ مع واشنطن بشأنها، متعكزاً على دعم سياسي داخلي قوي وعلى أداء سياسي وخدمي ناجح بات يثير إعجاب مواطني الداخل الذين أخذوا يشعرون ولأول مرة منذ أكثر من 20 عاماً بوجود تغييرٍ جادٍ وواضحٍ في ملف الخدمات والإعمار مع قناعة أميركيَّة بأنَّ السوداني رجلٌ يستحق الحوار والتعاون معه.
بالتأكيد إنَّ هناك قضايا استراتيجيَّة وخدميَّة وتنمويَّة وماليَّة متعددة يرغب السيد السوداني في دعم واشنطن لبغداد من خلالها، إذ إنَّ هذا الدعم سيعزز مفاهيم الشراكة والتعاون الحقيقي ويؤسس لانطلاقة جديدة في مسار العلاقات بين البلدين وفق نظرة شاملة من التكامل الاقتصادي والأمني والسياسي ستنعكس إيجاباً على الأوضاع ليس في العراق فحسب، بل على دول المنطقة أيضاً.