رامية منصور
{ضع لنفسك هدفاً سامياً، هدفاً يصعب بلوغه، لأن هذه هي مهمة الفنان، مهمته أن يتخطى حدوده. إن الفنان الذي يرغب في القليل ويبلغه، يكون قد أخفق في الحياة}.
باولو كويلو
لعلي لا ابتعد عن الدقة حينما أقول إن تأثر الفنان محمد مهر الدين بأستاذه الفنان الإسباني الشهير أنتونو تابيس الذي يعبّر عن أقوى الامتدادات التحررية لفناني ما بعد القرن التاسع عشر، حيث بدأ حركات التمرد من حينها على كل القواعد الأكاديمية لتاريخ الفن متأثرة بالتقلبات الفكرية والسياسية التاريخية التي تحول فيها الفنان الرافض لكل القواعد إلى ناقد. تابيس الذي كان المؤثر الأول والأكبر في أسلوب محمد مهر الدين بمجال معالجة عجينة اللوحة لإنتاج سطوح بملامس مختلفة جنبًا إلى جنب مع سطح اللوحة الصافي الملمس كجانب تقني فقط بل تجاوز ذلك إلى التأثير في رؤاه الفنية سواء تلك المتعلقة باستخدام المساحات والأشكال والرموز والكتابات ذات المعنى أو تلك العبثية التي يستخدمها لغايات تشكيلية مع إيحاءات جانبية تعزز حالة الدهشة
والغموض لدى المتلقي.
لا بد لي من اعطاء ملاحظة للقارئ قبل التوسع في الدراسة عن كوني اتناول هنا أعمال الفنان محمد مهر الدين في فترة عمره الفني النشط فقط لا الفترة المتأخرة ولا البدايات.
لقد كان للاختام الاسطوانية الدور الكبير والمساحة الأوسع في تصوير صراع الآلهة فيما بينها ومع الإنسان وصراع الإنسان مع بني جلدته ومع الحيوانات الرمزية الأمر الذي منحنا مفاهيم ورؤى مهمة عن طبيعة تلك العصور. إن فكرة الطباعة على السطوح الطرية لإنتاج أشكال واضحة أو رموز أو لمنح سطح اللوحة ملمسًا جديدًا لغرض التنويع التشكيلي الفني والتعبيري، لم تغادر الإنسان الرافديني حتى الزمن الحاضر ولا يبدو أنها ستغادره حتى نهاية الزمان. وخير مثال على ذلك الفنان موضوع بحثنا والذي أدمن العمل على العجينة اللونية والتأسيسية لسطح اللوحة التي ينتج عليها أعماله، منذ اللحظة التي تعرف فيها على أعمال تابيس في وكأنه أيقظ ثيمات، غائبة حاضرة، في ذاكرته الفنية الحضارية من تحت ركام القرون.
لم يكن مهر الدين مستنسخًا لتجربة تابيس كما يدفع البعض ولكنه عمل على صناعة هوية فنية وتقنية خاصة به عبر تطوير هياكل إنشائية تشكيلية للوحاته زاوج فيها بين التخطيطات والعبارات المكتوبة بالفحم والرصاص وألوان الباستيل والألوان الزينية ودهانات أخرى وزاد عليها باستخدام فن الكولاج للخامات والصور بما يدعم الفكرة التي يتناولها متجاوزًا بساطة خربشات تابيس التي استقاها من جدران السجون التي تهدف إلى اعطاء الإحساس بما يشعر به المعتقلون وآمالهم ويأسهم وذكرياتهم وهم ينتظرون فجر الحرية أو نهايتهم المحتومة.
كان لمهر الدين رؤية ناقدة وفاضحة لعيوب السياسة وجرائمها وازدواجيتها. هذه الرؤية عمل على بثها من خلال فنه البصري، مسقطًا أقنعة السياسة والسياسيين التي تصنعها وسائل الإعلام بصورها الهوليودية المؤثرة في وعي المتلقي متصديًا لقوة ذلك التأثير الذي لا يقف عند الحدث الآني بل يتجاوزه إلى ضرب تاريخ شعوبنا وثقافتها وتراثها في الصميم.
كما أن محمد مهر الدين عمل على دمج طريقة التعبير والأداء في اللوحة بمفهوم وتقنيات البوستر السياسي. وهو أداة تحفيز قوية وخطاب بصري جاذب يستند إلى ذهنية عميقة تحفّز وتستثير وعي الفرد والجمهور، وأداة ذات طابع اجتماعي ونفسي تعتبر من أقوى الأدوات الدعائية المؤثرة في الحرب والسلم لاسيما وأن أعماله تتناول قضايا الصراع المصيرية التي تخوضها شعوب المنطقة والعالم الثالث، كما كان يسمى أيام الحرب الباردة، بأسلوبه المختزل البسيط الذي تستشف منه المهارة التقنية والفنية.
يقول ألبرت أينشتاين "قليلة هي العقول القادرة على سحر جيل كامل بالروعة والمزاج الرهيف، وأن تضع أمامه المرآة من خلال وسيلة مبهمة، ألا وهي الفن" محمد مهر الدين هو الملصق المتمرّد الذي عاث جمالاً باللوحة.