تجليَّات الفلسفة في المسرح الحديث

ثقافة 2024/04/21
...

  د. علاء كريم

علاقة الفلسفة بالمسرح تتجلى في مستويات عدة، لأن المسرح إنتاج مركب، فهو لغوي معرفي أدبي وتقني، مما يشكل ذلك علاقة مع طبيعة الإنسان والبعد التاريخي. ومنذ اللحظة التي انبثق فيها المسرح، تجلت علاقته بالقضايا التي شغلت الفلاسفة، ومنها قضية الوجود. وعليه، يعد المسرح مساحة للفلسفة تظهر من خلاله وتحقق عبر تجسيدها على الخشبة اللغة الحوارية. وهناك قضايا غير الوجود، منها ما يلامس الجانب الأخلاقي والجمالي.

تتميز العلاقة التي تربط المسرح والفلسفة بنوع من التداخل والتبادل، وسبب ذلك، يعود إلى أن المسرح يشكل موضوعاً للتفلسف، وخاصة إذا عدنا إلى الأصول التاريخية والطقوسية للمسرح، نرى بأن النظرة الأسطورية تكشف حقائق الأمور بطريقة ساخرة، فيولد منها المعرفة. وبناء على هذا، فإن المسرح هو نصّ حواري، يمتلك رؤى اخراجية، وتشخيص، وتقنيات، وبالنظر إلى هذه المستويات وعلاقة الفلسفة بالمسرح، يصعب أن يكون هناك خط فاصل بين التمسرح والتفلسف، نظرا للتداخل القائم بينهما. وهذا أمر قد يحدث ارتباطاً بينهما، إذ تغني الفلسفة المسرح من حيث عمق معالجاته، ويغني المسرح الفلسفة، ويضفي عليها مسحة جمالية.
وكانت الفنون ومنها فن المسرح في العصور القديمة تولي الاهتمام الكبير لقضايا الدين والأخلاق وتمجيد الآلهة والبطولات والحكام، باستثناء البعض الذين اعتمدوا الفلسفة ذات البعد الإنساني والاجتماعي، وكانوا يمتلكون أفكاراً معاصرة، تتقارب مع رؤى الفنون في العصر الحديث، وما تسعى إليه هذه الفنون من آليات تجسد صور تعبر عن الواقع وتهتم بإنسانية الإنسان وتطالب بحقوقه الفردية والجماعية، فضلاً عن الاستفادة من الشروط العلمية والفنية والفكرية لعصر النهضة، وأيضا الاستفادة من فلسفتي الفن والجمال، باعتبارهما فروعاً للفلسفة التي تهتم بالنشاط الإبداعي للإنسان الذي يميل إلى إنتاج وتذوق كل ما هو جميل أملا في بلوغ اللذة عن طريق الإبداع. فاللذة أو الذوق حسب رأي (إيمانويل كانط) هما ملكة تقدير شيء أو فكرة، من حيث قبولها أو عدم قبولها لجمالها، وتقييم الذوق بالنسبة لكانط هو تقييم جمالي (إستطيقي) يرجع إلى الذات الإنسانية، وأن الجمال في نظره مرادف للكمال، شريطة أن تكون له غاية مفيدة تحقق منفعة للإنسان، والتي غالبا ما تكون أخلاقية. وهذا ما يعكس نظرته في مفهوم الفن الذي يعده اتجاهاً ميكانيكياً وآخر جمالياً، كما أن له غاية امتاعية وأخرى جمالية.
أما بالنسبة إلى الحواس عند (كانط) فلها دور مهم في تلقي الفنون الادائية المسرحية، فهي تساعد على الحكم من قبل المتلقي إذا ما تعرض للعين، وفق ما تحدثه من تأثير في المخيلة، وذلك لأن الأشكال في العمل الفني تظهر عبر روح الفنان التي تعطي تعبيراً منسجماً لما يفكر فيه، ويجعل من الشيء يتكلم إيماءً.
أما عند (هيجل) تتبلور نظرية علم الجمال، لتتجاوز مثالية كانط الأخلاقية وتتخطاها إلى المثالية المطلقة التي أتخذت مشكلة مصير الإنسان ومعنى وجوده وحقيقة إيمانه موضوعا لها. وموضوع "الإستيطيقا" في نظره لا يتناول الجمال الطبيعي فقط، وإنما الجمال الفني، على أساس أن الجمال في الفن أرفع مكانة من الجمال الطبيعي، لأنه من إبداع الروح وخلق الوعي ونتاج الحرية، لأن الفن يخلق أشياء أشد جمالاً وتأثيراً مما هو موجود في الواقع.
تختلف نظرة الفلسفة الماركسية للفن والإبداع عن نظرة الفلاسفة المثاليين، فالفن والجمال عند (كارل ماركس) وثيق الصلة بالعالم المادي المحسوس، ووظيفتهما ليس فقط تفسير الواقع، بل تغييره وتحرير الإنسان من تسلط الرأسمالية التي تسيطر على وسائل الإنتاج وعلاقاته التي تتحكم في الإبداع الفني بشروطها، لذلك تم الربط بشكل جدلي بين التحرر الطبقي والتحرر الفني والثقافي والإبداعي بصفة عامة.
كما يتجلى المسرح الحديث بقيم إبداعية متقدمة عبر تأثر أغلب فنانين المسرح بالمدرسة التعبيرية وتجاوزوها بعد الوقوف على انسداد أفقها على المستوى الاجتماعي والسياسي كما فعل (بيسكاتور) وتلميذه (بريخت) اللذين جسدا وأبدعا في التقنيات التعبيرية الجديدة على مستوى الكتابة والإخراج المسرحيين، وهذا ما يسمى بالمسرح التسجيلي الوثائقي أو الملحمي، ايضا الاستفادة من السينما كتقنية جديدة وتوظيفها في العرض المسرحي، أو توظيف آلات وديكور وقطع كبيرة الحجم ومسطحات متحركة ودوارة بالنسبة لعمل بيسكاتور، بهدف تحقيق التوعية والتحريض على الفعل الثوري لتغيير الواقع القائم المتحكم فيه من قبل الرأسمالية والامبريالية.
عليه، لجأ الفنانون في المسرح الحديث إلى التعبير عن ذلك الواقع فنياً، وذلك انطلاقاً من فلسفات اختلفت عن السائد والمألوف على مستوى أدوات وتقنيات التعبير الفني، كـ (الفلسفة الوجودية) مع رائدها (جان بول سارتر) و (فلسفة العبث) مع (صامويل بيكيت) وايضا تجربة المسرح الملحمي لرائدها (بريخت) والمسرح الفقير لـ (غروتوفسكي). ولعل ما يزكي هذا الطرح أن المؤلف المسرحي عالمياً، غالبا ما يخلق تجربة إبداعية تستوحي نموذجاً فلسفياً، ويشكل رؤى إبداعية، عبر الوعي الذي يوجهه نحو اختيارات جمالية معينة، ويفتح له آفاق التأمل الذاتي والكشف عن مظاهر التحول والتطور وغيرهم.
بالتالي، ترتبط الفلسفة بالمسرح الحديث عبر التفكير الإبداعي، البعيد عن التقليدية، وأن يكون تفكيراً متشعباً ومتنوعاً، يؤدي إلى توليد أكثر من إجابة واحدة للمشكلة، التي تمثل الإبداع الفني، والذي هو إحدى المشكلات الفلسفية الرئيسية بل أعقدها، لأنها مرتبطة بأعماق ودواخل الفنان المبدع، والتي ينبثق منها عمله الفني الإبداعي المرتبط بالقيم الجمالية والأخلاقية. وأخيراً يعتمد نجاح المسرح الحديث على تبسيط المضامين الفكرية، وجذب العديد من الفلاسفة الذين وجدوا في المسرح الوسيلة الأمثل لتبسيط وترويج أفكارهم، ومنحها مساحة من الجمال.